أحداث قفصة الأولى والتي اندلعت شرارتها الأولى بتاريخ 26 جانفي / يناير من سنة 1980 , أحداث انطلقت كما هو معروف لدى من عاصرها من أبناء تونس بتدبير من نظام العقيد معمر القذافي حين كانت علاقته بالرئيس الراحل بورقيبة وبعض المقربين منه على درجة عالية من التوتر وحين كان نظام اللجان الثورية يبدى قلقه العظيم تجاه تراجع بورقيبة في السبعينات عن مشروع الوحدة بين تونس وليبيا ... هدية النظام الليبي كانت في بداية الثمانينات فريق كوموندوس تونسي مدرب تدريبا عاليا ومسلح تسليحا جيدا وقع ارساله الى تراب الجمهورية التونسية قصد القيام بعملية انقلاب مسلح تنطلق من جبال قفصة الحدودية . الهجوم المدبر بارادة خارجية متامرة على أمن تونس واستقرارها في تلك الحقبة باء بالفشل برغم نجاح مجموعة الميرغني في السيطرة على أهم المراكز المدنية والأمنية والعسكرية بقفصة , ولقد لعبت يومها على حد تأكيد بعض العارفين وحدات من الجيش الفرنسي دورا رئيسا في اخماد هذا التمرد الخارجي المسلح - الموضوع يحتاج الى مزيد من البحث التاريخي المعمق-... أحداث قفصة الأولى مطلع سنة 1980 تم اخمادها نهائيا بتاريخ 3 فبراير من نفس السنة حين امتنع أهل قفصة عن اسناد العناصر المتمردة والوقوف الى جانب ندائات اذاعة قفصة التي كانت تبث من مكان قصي وخفي عن أعين النظام التونسي - ربما كانت تبث من داخل التراب الليبي ! أو من المياه الدولية القريبة من المياه الاقليمية التونسية - موضوع اخر للبحث -... كانت هذه أحداث قفصة الأولى التي تبين بالكاشف أنها كانت استثمارا خارجيا لظروف النقمة الداخلية التي عاشها التونسيون على اثر انتفاضة الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة الحبيب عاشور سنة 1978 , ولعل البحث العميق في هذه الصفحة الأليمة من تاريخ تونس قبل مايزيد عن ربع قرن قد يثبت أن أطرافا من داخل السلطة قد استفادت منها كثيرا من أجل تعزيز مواقعها في أعلى هرم صناعة القرار أو ربما قد تكون على علاقة ببعض مفاصلها في اطار الصراع على تركة الرئيس بورقيبة - ملف نطرحه على المؤرخين من أجل البحث فيه بتجرد وموضوعية-. هذا الاحتمال يظل واردا جدا اذا ماعلمنا حجم الصراعات التي كانت تحيط بموقع الرئيس بورقيبة وأجنحة القصر التي وصل بها الأمر بحسب شهادة رئيس وزراء تونس السابق محمد مزالي في كتابه "نصيبي من الحقيقة" الى الحديث عن تحريض وسيلة بورقيبة للنظام الليبي على زعزعة أمن واستقرار الجمهورية التونسية طمعا في اضعاف جناح سياسي مقرب من زوجها الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة... أترككم قبل الخوض في أحداث انتفاضة قفصةالجديدة والتي اندلعت في تونس قبل أيام من الشهر الجاري- أفريل 2008 - مع هذه الشهادة المكتوبة لرئيس وزراء تونس الأسبق في هذه السطور الهامة جدا حين تحدث عن مناخات الحكم أوائل الثمانينات أي بعد سنوات قليلة من اندلاع أحداث قفصة الأولى : كتب الأستاذ محمد مزالي قائلا بالعودة الى موضوع أحداث قفصة الأخيرة والتي انطلقت شرارتها قبل اربعة أشهر من الان أي في مطلع شهر يناير 2008 لتصل ذروتها مع انتفاضة الرديف أيام 8 و9 و10 افريل , يبدو المشهد في ظاهره لايزيد عن رفض نقابي للتلاعب بنتائج مناظرة التشغيل بشركة فسفاط قفصة , وهو مادفع المسؤولين النقابيين بالجهة الى تنظيم اعتصامات وصلت الى حد منع قطار الفسفاط من القيام بخدمات النقل الطبيعي بين قفصة ومدن أخرى تقوم بخدمات النقل و التكرير ... هكذا كانت بداية الأحداث التي تجاهلتها السلطة أو أجنحة فيها عن قصد او عن غفلة لست ادري !... غير أن المراقب للمناخ العام بالبلاد التونسية يقف أمام حقيقتين لامهرب منهما , أولاهما أن البلاد تعيش حالة غضب واحتقان سياسي منذ مالايقل عن ستة عشر سنة وذلك في ضوء تدهور مريع للحريات ودخول السلطات في مرحلة من الاعتقالات والمحاكمات السياسية المستمرة , أما الحقيقة الثانية فهي ماطرأ على الساحة الاجتماعية منذ سنوات قليلة وفي الأشهر الأخيرة خاصة من تدهور عام في القدرة الشرائية للمواطنين , وهو ماترتب عنه تراجع ملحوظ في حجم الطبقة الوسطى واتساع أكبر في حجم دائرة العاطلين من ذوي الكفائات العلمية مع اتساع واضح لدائرة الفقراء في ظل ارتفاع حاد في أسعار المواد الأساسية وأسعار المحروقات ... التونسيون بطبقتهم السياسية المعارضة وحتى عموم الجماهير كانوا يراهنون مع حلول تاريخ الذكري العشرين للسابع من نوفمبر على اصلاحات سياسية جذرية تدخل تونس حقبة جديدة من التنمية السياسية , ولقد كان مطلب العفو التشريعي العام واطلاق حرية الاعلام وحرية الأحزاب والجمعيات متصدرا لقائمة المطلبية السياسية لدى النخب والعوائل السياسية التي اكتوت بنار المحاكمات والاعتقالات شبه اليومية على مدار الأشهر الأخيرة ... مطالب اصلاحية هامة كانت كفيلة بنزع شرارة التصعيد بين اطراف المعارضة والحكم والطبقات الشعبية المتضررة بنار المحاكمات ولهيب الأسعار, غير أن تعنت السلطات عبأ جهودها الاعلامية والسياسية والأمنية نحو مزيد من تبرير الانغلاق وممارسة لعبة الترهيب بمسلسل من المضايقات والاعتقالات المحيرة ... النتيجة كانت حتمية وهي تصعد حالة الغضب العام وشيوع حالة يأس تجاه عدم اقدام السلطة على تنازلات في موضوعات هامة لم تعد مطلبا نخبويا معزولا في بئة بلغ فيها عدد المترشحين الى مناظرة شهادة الباكالوريا هذه السنة رقم 956 ألف مترشح ... انتفاضة قفصة والحوض المنجمي هذه الأيام لم تكن الا انذارا شعبيا أولا تجاه نظام سياسي لم يصغ الى صوت العقلاء والغيورين على مصلحة السلطة نفسها كما مصلحة شعب قدم أغلى التضحيات من أجل نيل استقلاله الأول والثاني ... حياة حرة وكريمة تحترم فيها حقوق الانسان وحرياته الأساسية مع ضمان كفالة حد معقول من العدالة والرفاه الاجتماعي , في ظل مناخ ديمقراطي يكفل مشاركة سياسية حقيقية وتداول منطقي وهادئ على السلطة , تلك هي رسالة قفصة في انتفاضتها الثانية الى السلطات التونسية , واذا لم تفهم الرسالة فان الأجواء التونسية ستكون ملبدة بغمام قد يحمل رسائل مكررة نخشى أن تعجز السلطة عن الاستجابة لها في وقت متأخر لن ينفع معه الاصلاح والترقيع ... البعد الثالث في أحداث قفصة الأخيرة نتركه للمؤرخين حين يتأكد لنا أن الكثيرين من الوطنيين والغيورين على مستقبل البلاد من داخل الأجهزة الحاكمة باتوا يعبرون أكثر من أي وقت مضى عن قلقهم العميق تجاه تواصل مشوار التصلب السياسي والقمع الأمني لكل مطلب اصلاحي من شأنه التخفيف من حالة الاحتقان وضمان مسيرة أكثر سلامة وأقل خطورة في طريق لعبة الحاكم والمحكوم... كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 14 أفريل 2008 للتفاعل مع الكاتب : [email protected] المدونة