في مؤشّر على نهاية حقبة وبداية أخرى، حقّقت الأحزاب اليمينية المتطرفة والأحزاب الشعبوية والمشككة في الوحدة الاوروبية اختراقا كبيرا في البرلمان الاوروبي...أمر قد لا تقتصر ارتداداته على أوروبا فحسب، بل على العالم أجمع. في الحقيقة لم يكن هذا الفوز الكبير للتيارات اليمينية المتطرّفة والشعبوية وليد اللحظة كما لم يكن مفاجئا على الأقل أوروبيا، بالنظر الى المرحلة الحرجة التي تعيشها القارة العجوز سياسيا واقتصاديا وحتى فكريا. ويعود الصعود المدوي لهذه الأحزاب الى عدة عوامل مؤثرة في المشهد الاوروبي والعالمي لعلّ أبرزها داخليا تآكل الاحزاب الاوروبية الكبرى المحافظة والمعتدلة التي ظلّت تحمل على عاتقها استمرار هذا الصرح وحمايته. كما مثّل الانقسام الاوروبي الكبير حول أزمة الهجرة ومسألة المحافظة على القيم الاوروبية بعد الموجة الرهيبة من المهاجرين التي تلقاها الكيان الاوروبي بسبب «الربيع العربي»، دافعا لإثارة الأحزاب والحركات المتطرفة الرافضة لذلك. غير أن اعلان بريطانيا سنة 2016 انسلاخها عن الصرح الاوروبي، هو القطرة التي أفاضت الكأس وأدخلت الاوربيين في سجال ومواجهة شرسة لا تزال متواصلة الى الآن، والحديث هنا عن صيغة لخروج المملكة المتحدة عن البيت الاوروبي. ورغم كل هذه المسببات فإن الأمر لم يقتصر على ذلك فحسب، بل إن صعود الاحزاب الشعبوية على المستوى العالمي له دور بارز في ذلك، ولعل خير مثال على ذلك فوز دونالد ترامب بالرئاسة الامريكية. الآن يبدو أن القارة الاوروبية تقف أمام مفترق طرق، فإما أن تتوحد وتعيد رص الصفوف لقطع الطريق امام اليمين المتطرف والشعبويين وبالتالي حفظ الهوية والمبادئ الاوروبية، واما مواصلة الانقسام والتفكك وفتح الطريق امامهم للعبث بكل المكتسبات. والخطورة اليوم هي في انهيار المثال الأوروبي وغياب البدائل، هذه القارة التي دخلت في مسار وحدوي بين معظم دولها، كي تنهي قرونا من الحروب الدموية، تدخل للمرة الأولى في مسار معاكس مع خروج بريطانيا ومع الأحزاب التي ترغب بتدمير الفكرة الأوروبية وقد وصلت إلى البرلمان الأوروبي. لا شكّ أن هذا الواقع الجديد لن تكون ارتداداته على القارة الاوروبية فحسب بل انها ستتجاوزه الى ما وراء البحار وستكون مثالا سيئا وحافزا للأحزاب الشعبوية للوصول الى سدة الحكم في ظل تراجع الاحزاب التقليدية. كما سيمثّل غياب المشروع الوطني القائم على الديمقراطية والحرية هدية ثمينة لهذه الاحزاب والحركات التي تنتعش من غياب هذا المشروع والانقسام والتفكك الذي يسود أي بلد. وعلى الساعين لبناء أوطانهم أن يستعدوا جيدا لهذه الموجة من الشعبوية التي اخترقت الدول المتقدمة والديمقراطية فما بالك بالدول النامية الهشة التي يسهل اختراقها والعبث بكل مكتسباتها وارثها وقيمها.