* أبو القاسم بن الهاشمي البكوش * نشرع بداية من هذا العدد في نشر فصول هامة من كتاب «ولا تكن من الغافلين» لمؤلفه أبو القاسم بن الهاشمي البكوش وكانت «الشروق» قد نشرت بعضا من هذا الكتاب خلال شهر رمضان المنقضي، ونظرا لأهمية ما احتوى عليه هذا المؤلف فإننا ننطلق بداية من هذا العدد في نشر فصول من الكتاب أسبوعيا. في البداية أرى من الضروري أن أوضح بأني أتبنى الرأي الذي يفيد بأن الرغبة في التدين ذات صبغة فطرية محضة مثل كل الرغبات الأساسية الأخرى المتجذرة في جبلة الإنسان، وليست إفرازا اجتماعيا خاضعا لظروف عابرة وناتجة عن الخوف من القوى الطبيعية القاسية وحتمية الموت الرهيبة. إن الإنسان البدائي في لحظات صفاء عقله المحدود كان يتساءل عن منشإ هذا الوجود وكل ما يحتويه من كائنات حية وجامدة وحاول التعرف على هذا السر والتقرب إليه بشتى الأساليب والطرق، فأقام المعابد والهياكل وعبده في أشكال مختلفة وآلهة متنوعة الاختصاص ووضع لذلك مختلف الطقوس والشعائر وتوجه لها بالدعاء والصلوات، وهذا يؤكد بأنه كان مقتنعا بأن هذه الأكوان لم تخلق من تلقاء نفسها بمحض الصدفة العمياء والتطور الطبيعي، فقد أحس بحدسه الفطري بأن هناك قوى خفية مجهولة تخلق كل هاته الأكوان وتتحكم في مصير كل ما فيه من موجودات. ولقد أرسل الله إليه الإنسان النبي الحامل للكلمة الإلهية ليزيح الأوهام والخرافات عن مفاهيم علاقاته بنفسه ومحيطه وتصوراته الماورائية ويرشده إلى عقيدة التوحيد الخالصة المتخفية في أعماق فطرته. ولا شك بأن وجهة نظر فطرية التدين، تتعارض مع ما يراه الفيلسوف الفرنسي «أوقست كونت» (1798 1857) Auguste CONTE مؤسس المدرسة الوضعية الذي يرى أن الفكر الإنساني يمر بشكل حتمي من المرحلة التيولوجية إلى المرحلة الميتافيزيقية ثم إلى المرحلة الوضعية التي ترفض كل مطلق. وهذا يعني أن النزعة الدينية ذات طابع مرحلي ونسبي وليست متجذرة في الطبع الإنساني وقد تجاوزتها الأحداث ولم تعد تتماشى مع التطور الذي بلغه الإنسان في ذلك العصر وقد يطول الجدل في هذا الشأن ويتمطط غير أني سأظل مقتنعا بأن الإنسان متدين بفطرته ونزعته الدينية لا تخضع لمرحلية وأسباب خارجية محضة وستلازمه دائما مهما تطور ومهما أحرز من أسباب القوة والمناعة ومهما تقدم في فهم أسرار الوجود وضاعف من معلوماته بشكل لم يسبق له مثيل ونسق يتسارع كل يوم وتجدر الإشارة في هذا السياق بأن علماء الآثار كانوا يعثرون دائما خلال حفرياتهم على بقايا معابد تركتها الحضارات القديمة لتؤكد بأن الكائن الإنساني كان كائنا دينيا بفطرته وكان قادرا على مغادرة كهوفه والنظر إلى السماء ويمكن لنا الآن وهنا أن ندرك هاته الحقيقة البديهية بكل سهولة ويسر وذلك عندما نعود لذواتنا ونزيح عنها حجب الغفلة وتورمات النفس ونفكر بجد... عندها ستبدو لنا هذه الحقيقة بكل جلاء إننا نجوع فنأكل ونعطش فنشرب ونصاب بمكروه فنتألم وننال مرغوبا فنتلذذ وننظر إلى مشاهد الجمال فننشرح ونشاهد صور القبح فننقبض ونحسن فنحس بالرضاء. ونسيء فنشعر بالندم وأننا عندما نفتح أعيننا بحق ونمعن النظر في أجسادنا هذا الكون الصغير المتناهي ونطيل التأمل في السماء هذا الكون الكبير اللامتناهي ونشعر بهذه القوة الباطنية العجيبة التي نستطيع بواسطتها أن نفكر... فإننا في هذه اللحظات الفطرية الصافية، سنتدين عقلا واختيارا لا تقليدا وكرها، وسنشعر بأننا نستجيب لحاجة طبيعية ملحة كحاجة الجائع للغذاء والظمآن للماء والخائف للأمان والقلب للإيمان. ولا شك بأن الإيمان بالله هو محور العقيدة الدينية الأساسي، وقد حاول العقل البشري صياغة براهين منطقية تدل على وجوده وهي كما يلي: 1) برهان الخلق أو البرهان الكوني وخلاصته أن الموجود لا بد له من موجد 2) البرهان الغائي وفحواه أن هناك غاية من الخلق وحكمة في تسييره ورعاية في تدبيره 3) برهان الكمال وفحواه أن العقل الإنساني يتطلع إلى ما هو أكمل منه إلى نهاية النهايات، وهي غاية الكمال المطلق الذي لا مزيد عليها ولا نقص فيها، ذلك لأن تصور الكمال مثبت لوجوده. 4) البرهان الأخلاقي أو وازع الضمير الذي يثبت وجود الله بوجود الوازع الأخلاقي في النفس. فكيف يمكن للإنسان أن يحس بالندم ويدين نفسه بالحق عندما يقترف جرما ما، إن لم يكن في الكون قسطاسا للحق وحافظا له، أوجد فيه هذا الشعور؟ وكيف يقوم الإنسان بالواجب الكريه لديه ومعرضا عن اتباع الهوى المحبب إليه من غير أن يطلع أحد على باطنه؟