أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (يوم 5/11)، من موقعه كقائد لحركة فتح، عن حسم الخلاف بشأن مكان وزمان انعقاد المؤتمر السادس لهذه الحركة، الذي حدّده في الأول من تموز / يوليو القادم، في «الوطن» (أي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة). لكن هذا الإعلان أحاطته تساؤلات بشأن تفرّد عباس بحسم هذا الموضوع بعيدا عن اللجنة المركزية (الهيئة القيادية للحركة)، وعن التوجهات التي أقرتها اللجنة التحضيرية للمؤتمر السادس، والمتعلقة بعقده في الخارج بعيدا عن الأجواء الاسرائيلية. وكانت مسألة عقد المؤتمر من عدمه تحولت الى قضية القضايا في حركة فتح والساحة الفلسطينية عموما بالنظر لمكانة هذه الحركة التي قادت العمل الوطني طوال أكثر من أربعة عقود مضت وتأثيرات ذلك على النظام السياسي والحركة الوطنية والسلطة وبالنظر الى عدم عقد هذه الحركة لمؤتمرها منذ 20 عاما. وفات كثيرين بأنّ عقد مؤتمر أي حركة أو حزب إنّما هو تتويج لعمل هيئات واطارات ونقاشات وأن ذلك يختلف عن عقد مهرجان أو حتى اجتماع حزبي. فالمؤتمر يأتي كنتاج لمؤتمرات فرعية ويحسم في نقاشات سياسية وهذا غير وارد في واقع فتح كون هذه الحركة لا تتمتّع بهيكلة تنظيمية هرمية، وإنّما هي بمثابة مجموعة مراكز أو قطاعات تتألف من الأجهزة المدنية والقوى العسكرية والأمنية والأقاليم المناطقية (التنظيم). ولعلّ هذا يفسّر هلامية جسم فتح، وعدم التوافق على مرجعية قيادية بعد رحيل الزعيم التاريخي لهذه الحركة ياسر عرفات، وصعوبة التوافق على عدد أعضاء المؤتمر وأسمائهم، فكل قطاع أو كل مركز قوة يريد ان يتأكد من وجود «جماعته» في المؤتمر، كقوة وازنة. وهذا ما يفسّر أيضا واقع ان التحضير لهذا المؤتمر (فيما لو عقد) استمر منذ أربعة أعوام، بمعنى ان اللجنة التحضيرية للمؤتمر السادس بات لها في العمل أربعة أعوام، وهي فترة ولاية أمريكية كاملة وتكفي لإنشاء أحزاب! ومن الناحية السياسية فبرغم الجدل عن مكان وزمان المؤتمر وعدد أعضائه، فقد خلت الساحة الفتحاوية والفلسطينية من أية نقاشات من حول البرنامج السياسي المقدم للمؤتمر (ان وجد). واللافت ان «فتح» مازالت تقف من الناحية البرنامجية / السياسية، عند حدود برنامج المؤتمر الرابع، أي برنامج التحرير والمقاومة المسلحة، في حين أنها هي التي قادت عملية التحول نحو التسوية والمفاوضة واقامة السلطة الفلسطينية في ظل استمرار واقع الاحتلال! ومعلوم انّ قيادة هذه الحركة تستهتر بالنقاش السياسي، والأفكار السياسية وتعظّم من شأن الروح العملية والشعاراتية وتعتبر نفسها فوق النقاش والمسائلة وانّها وحدها التي يحق لها التقرير بشأن الحركة بل وبالشؤون المصيرية للشعب الفلسطيني. ومن المعلوم أنّ قيادة فتح لم تطلق نقاشا بشأن التحول نحو اتفاق أوسلو، وحتى أنّ عددا من أعضاء اللجنة المركزية فوجئوا بهذا الاتفاق، كما لم يكن ثمة توافق في هذه القيادة حول عديد من الأمور ومن ضمنها تطبيع الانتفاضة بالعمليات العسكرية ولاسيما التفجيرية (الاستشهادية)، ولم يكن ثمة نقاش فيها بشأن الدمج بين منصبي رئيس السلطة ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. كما من المعلوم أنّ هذه الحركة لم تجر مرّة مراجعة لأوضاعها وتجاربها، من الأردن الى لبنان الى رام الله، وانها لم تقدم اي مسؤول فيها للمحاسبة والمسائلة، ومن ضمن ذلك ممّن أحاطت بهم الشبهات الأمنية والوطنية والمسلكية وحتى أنّها لم تجر أي مراجعة جدية ومسؤولة لإخفاق عملية التسوية ولا لخساراتها الانتخابات التشريعية الثانية (أمام حماس) ولا لآنهيار أوضاعها في قطاع غزة (2007). ويبدو من ذلك، اي من غياب الإعداد المناسب للمؤتمر وعدم طرح موضوعاته للنقاش ان ثمة ارادة لدى البعض في قيادة فتح مع بعض مراكز القوى لتحويل المؤتمر الى نوع من مظاهرة استعراضية والتي ينجم عنها تجديد شرعية البعض واتاحة المجال لبعض النافذين الطامحين لاحتلال مواقع في اللجنة المركزية. وعلى الرغم من انني أرجّح تراجع أبو مازن عن قراره الانفرادي بعقد المؤتمر (مثلما تراجع عن قرار تشكيل حكومة في ظرف يومين)، بالنظر لتداعيات ذلك على وضع فتح ووحدتها، فإنّني أعتقد أيضا بأنّ معضلة فتح لا تتعلق فقط بعقد المؤتمر من عدمه وإنّما بتوفير الوعي والإرادة والتصميم لدى قيادات وكوادر فتح بشأن ضرورة اعادة صياغة هذه الحركة ونفض الترهل والتبلّد في بُناها واعادة الاعتبار للحيوية النضالية والتعددية السياسية والعلاقات الديمقراطية المؤسسية في صفوفها بما يمكنها من استعادة روحها كحركة تحرّر وطني. وبمعنى آخر فإنّ هذه الحركة بعد كل التحولات السياسية الحاصلة باتت بحاجة لإعادة تأسيس ثانية بل انّها تأخرت كثيرا في ذلك وهذا أحد أهم أسباب العطب البادي فيها. أمّا في حال أصرّ أبو مازن على تنفيذ قراراته، بغض النظر عن التداعيات الخطيرة والسلبية التي يمكن ان تنجم عن ذلك لاحقا فإنّني أعتقد بأنّ موازين القوى في الحركة تميل لصالح أبو مازن (ليس الشخص وإنّما الاتجاه) والقوى المتمحورة حوله، والتي حضته على حسم الأمر بالطريقة إيّاها. والقصد هنا انّ المسألة لا تتعلّق بأقلية وأكثرية وبشرعية وعدم شرعية فليست هكذا تجري الأمور بفتح وإنّما المسألة لها علاقة بالتوازنات الداخلية في الحركة كما بالتأثيرات الخارجية عليها. ومن هذا المنطلق فإنّ أبو مازن ومن معه يملكون الوسائل والإمكانيات لعقد المؤتمر بألف وألفين وثلاثة آلاف عضو (بالنظر لأنّ هذه الحركة كما قدمنا لا يوجد فيها تراتبية هرمية / حزبية). أيضا فإنّ أبو مازن يملك معظم مفاتيح الشرعية الفلسطينية، فهو رئيس المنظمة ورئيس السلطة وقائد فتح. الى ذلك فمن الضروري التذكير بأنّ الغالبية العظمى من قيادات وكوادر وأعضاء فتح وموازناتها باتت من السلطة الفلسطينية بعد ان تمّ تجفيف أموال فتح أو مصادرتها بشكل أو بآخر. وفوق كل ذلك وهذا على غاية في الأهمية فإنّ مركز أبو مازن (ومن معه) هو في الأراضي المحتلة حيث مركز ثقل العمل الفلسطيني في حين أنّ الساحات الأخرى باتت مهمشة وضامرة لأسباب ذاتية وموضوعية. لذا فإنّ المعوّلين على أوضاع فتح في الخارج ليس لديهم إمكانيات مادية وليس لديهم مصدر قوة سياسية ولا شرعية تمثيلية. وما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أنّ الصراع الداخلي في فتح ليس له علاقة بالصراع حول الأفكار والمشاريع السياسية، فقد خبت روح فتح المتأسسة على التنوع والتعددية منذ زمن وولّى زمن التيارات الفكرية والسياسية فيها، وثمّة توافق بين مختلف مراكز القوى المؤثرة بفتح اليوم على عملية التسوية وان كان ثمّة خلافات بهذا الشأن أو ذاك. ومعنى ذلك أنّ خلافات فتح اليوم وتصارعات مراكز القوى فيها، إنّما تدور حول مواضيع ومواقع سلطوية وشخصية أكثر من كونها خلافات سياسية من دون أن يقلّل ذلك من وجود كوادر فتحاوية لها وجهة نظر نقدية جذرية بأوضاع فتح وسياساتها وطرق عملها، لكن وجهات النظر هذه ليس لها تعبيرات أو منابر علنية واضحة. هكذا وكما قدمنا فإنّ حركة فتح ازاء واقع الفوضى والتسيّب والتكلس فيها على الصعيدين البنيوي والسياسي باتت بحاجة الى إعادة تأسيس ثانية وهذا ما ينبغي الاشتغال عليه بمؤتمر أو من دونه، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه الحركة الوطنية التي شغلت الناس خلال العقود الأربعة الماضية.