إنّ ثورة الرّابع عشر من جانفي التي نحتها شباب الوطن من خريّجي الجامعات العاطلين عن العمل منذ زمن مرير من بؤس ولوعة انتظارهم لفرصة عمل شريف يرفعهم من وهاد الحاجة، ويخفّف عن أسرهم حالة الانكسار والاملاق ويرجع للتعليم والعلم توهّجه ومصداقيّة رسالته... ومن أجل تحقيق هذه الأهداف الاجتماعية الانسانية النبيلة.. فجّر ثورته الباسلة في وجه النظام الفاشي الجاهل وتسلّح بالارادة الوطنية الفذّة وفداها بدمه بسخاء وباصرار قُدسي رفع مقولة: »الحريّة والكرامة لترسيخ وتثبيت الحقوق المدنية التي تمّ وأدها واغتيالها من طرف الدكتاتور المخلوع بمعيّة أهله وبطانة حكمه وحزبه.. فتاهت البلاد لمدّة 23 سنة في شعاب الفساد والافساد.. بُعيد تكميم أفواه الأحرار في الاعلام والثقافة وافراغ التعليم من ثرائه المعرفي وتسخير القضاء بعد شقّ صفّه في تقنين عملية تدمير البلاد والعباد.. وطمس آثار جرائم النّهب والسطو والاستبداد الرّهيب الذي أدرك كلّ زاوية وركن في هذا البلد الأمين. فلم يسلم القطاع العام من التفويت فيه لأفراد هذه العصابة الحاكمة ومن سار في ركبها من القوى الخارجيّة بدعوى الانفتاح حدّ الانبطاح لجشع اللّيبرالية المتوحشة.. وتمدّد هذا الطاعون ليسلب العامة من الناس أملاكهم الخاصّة ولغاية تأييد هذا الوفاء الذي نشره هذا الحكم البوليسي في طول البلاد وعرضها قام بمصادرة الثقافة الوطنية وضرب قواها الحيّة وسدّ أبواب المنظمات والجمعيات أمام سير نشاطها وتجفيف منابع تدفقها حتى تصحّر الواقع الثقافي المعرفي واختلّت موازينه الأخلاقية وقيمه الحضاريّة الجماليّة حين عصفت رياح التزلّف والاسفاف والتمييع والضّحالة في الحياة الثقافية الابداعيّة فعمّرها سيل من المدّاحين والكتبة الماجورين ومطربي »الرّبوخ« ومسرح الفكهاجي الرّخيص ومنتجي سينما العراة يقود هذا الرّهط من المهرّجين مدير المسرح الوطني »اللاّوطني«.. محمد ادريس تابع عبد الوهاب عبد الله وخادمه المطيع وهو المكلّف بتنظيم وتزويق حفلات القصر وسهرات وأفراح الرئيس الفار وزوجته الحجّامة واخراج بهرجها وبذخها باللّون البنفسجي.. ونتيجة لذلك أُطلقت يد محمد ادريس في الحركة المسرحية يفعل برجالها ما يريد.. يغلق باب المسرح الوطني على نفسه في نفر من أتباعه ويحرم الطّاقات الشابة من خرّيجي المعهد العالي للفن المسرحي من حق العمل في هذه المؤسسة الوطنية الابداعية ويمنع البارز من القدرات والكفاءات من الانتاج فيها وهو الفعل الذي يأتيه في ادارته المثالية لأيّام قرطاج المسرحية.. فينفرد دون حسيب أو رقيب بتبذير المليارات من الدّنانير مع سعيه المحموم لتحطيم الحركة المسرحيّة في بعدها الوطني اذ نجح في سنة 1994 في عهد الوزير المنجي بوسنينة مع أربعة من مريديه في الانقلاب على هياكل المسرح التونسي بحلّ الفرق المسرحيّة الجهويّة وتشريد العاملين فيها من الممثلين ونقل أساتذة المسرح من وزارة الثقافة الى وزارة التعليم بغية افراغ وزارة الثقافة من الاطارات المسرحيّة التي صنعت ربيع المسرح التونسي في زمن السّتينات والسّبعينات عبر المسرح المدرسي والجامعي ومسرح الهواية والاحتراف. وفي هذا الفراغ الفارغ فُرضت الخصخصة على القطاع المسرحي الثقافي تجاوبًا مع اللّيبرالية المتوحّشة وجشعها المادي وجبروت فرض التبعيّة الاقتصادية الثقافيّة على جلّ الأقطار العربيّة فيها جموح ورغبة في السيطرة على مواردها الطبيعيّة وثرواتها البتروليّة وتحويل كلّ أرجاء الوطن العربي إلى سوق استهلاكيّة وبرز العداء لكلّ توجه وطني قومي سواء في الاقتصاد والتعليم والثقافة والفنون المستظرفة.. وهذا ما نفّذه القطاع الخاص عبر الشركات المسرحيّة العائلية فدعت إلى خطاب التغريب والتجنيس وروّجت ونشرت لغة الفساد والعُهر عبر مسرحياتها الهزيلة التافهة التي تمّ دعم انتاجها وعروضها التي لا تعرض بعشرات الآلاف من الدنانير.. ثورة هائلة أهدرت من طرف وزارة الثقافة والمحافظة على التّراث كان من العدل أن تُوجّه إلى أصحاب الشهائد العليا العاطلين عن العمل حتّى جاءت ثورة الكرامة والحريّة الحاملة لثورة ثقافية ديدنها: فكر التّنوير والتقدّم والعدل عبر تأسيس ثقافة وطنيّة ديمقراطية.