منذ سقوط النظام البائد يفاجئنا كل يوم جديد بتناقضات جديدة غريبة وعجيبة اذ شهدت منطقة دوار هيشر بالعاصمة عملية اقتحام مجموعة من المواطنين لاقامة تضم 88 مسكنا تابعة لشركة النهوض بالمساكن الاجتماعية «سبرولس» حيث استولوا عليها منذ يوم 15 جانفي الجاري وتشبثوا بالاقامة بها مبررين ذلك بأولويتهم في الاستفادة بها بعد أن عانوا لسنوات طويلة من الاقصاء والتهميش على حد تعبيرهم. منذ وصولنا الى المكان المقصود اعترضتنا وجوه شاحبة مرهقة ...نظرات تعكس الآلام والمعاناة ...ملامح التعب والشقاء تحكي عن سنوات الظلم والقهر وانعدام المساواة ...أطفال في عمر الزهور يبدو البؤس على وجوههم الحالكة وملابسهم الرثة يتساءلون في حيرة ويهتفون بنشيد الوطن ...أعيتهم الحاجة وعانوا طويلا من الفاقة والفقر الذي دفع بعضهم الى توديع مقاعد الدراسة مضطرا، مكرها وهو يبكي دما ...حكايات متنوعة بتفاصيل مريرة تلتقي جميعها في معاناة حقيقية ومأساة اجتماعية ...كل المواطنين سردوا وضعياتهم الاجتماعية الصعبة التي تبرر استيلاءهم على هذه المساكن من وجهة نظرهم رغم ان كل التبريرات لا تعني فتح الطريق أمام كل التجاوزات والفوضى التي تتعدى كل الاشكال القانونية.
«الملاكة» أطردونا
كشف لنا عديد المتساكنين عن حكاية تبدو عجيبة وغريبة اذ أكدوا ان بعض المسوغين أي «الملاكة» طردوا وهددوا البعض الآخر باخراج أدباشهم الى الشارع تزامنا مع سقوط النظام البائد أي يوم 14 جانفي خشية عدم دفعهم لمعين الكراء في الاشهر القادمة والتشبث بعدم الخروج .فقد اشارت المواطنة عفاف العكرمي ان صاحب المنزل الذي كانت تقطنه على وجه الكراء شرع في تهديدها بالخروج منذ ازدياد حدة المظاهرات في مختلف المناطق .وبعد سقوط نظام الطاغية بيوم واحد توجهت مع بقية المواطنين لنستولي على مسكن من هذه المساكن .واضافت ان وضعيتها الاجتماعية الخانقة اضطرتها الى هذا الحل المرير .وفي ذات السياق أكدت كل من حبيبة المالكي ومحجوبة السعيدي وعبد القادر عرفاوي دفعتهم الى تجاوز القانون والاستيلاء على هذه المساكن .كما ناشدوا الأطراف المسؤولة بمراعاة ظروفهم ومنحهم هذه المساكن نظرا لمعاناتهم من الفقر والقهر طوال فترة نظام الرئيس المخلوع.
شق آخر من المواطنين صرح انهم استولوا على هذه المساكن لحمايتها من السرقة والنهب خاصة ان بعض اللصوص حاولوا الاستيلاء على بعض تجهيزاتها من أبواب واقفال وغيرها واستغلالها في نفس الوقت الى حين ايجاد حل لوضعياتهم الصعبة باعتبار ان جميعهم عجزوا على دفع معاليم الكراء. اذ قال المولدي بن عيسى «صحيح انه لا يحق لنا قانونيا الاستيلاء على هذه المساكن لكننا في الحقيقة دخلناها لحمايتها من جهة والخروج من وضعياتنا الخانقة التي نعيشها من جهة اخرى... لابد ان يعلم الجميع ان كل المواطنين هنا يعانون من الجوع ونحتاج فعلا الى لفتة حقيقية تخرجنا من هذا الكابوس وتعيد الينا حقوقنا». ومن جهته اكد محمد الدريدي ان المتساكنين قاموا بحماية هذه الاقامة السكنية كما وقفوا صفا أمام العصابات التي حاولت حرق مقر المعتمدية .واستطرد قائلا «لما عرفنا ان هذه المساكن فارغة قررنا الاستيلاء عليها لأن لكل واحد منا حكايات عن» الدمار.. «لقد قدمنا الشكاوي الى مسؤولي النظام البائد لكننا لم نجد منهم سوى الوعود الكاذبة والمماطلة الغريبة لنظل على حالنا الى اليوم ...وهنا أريد التوجه بنداء عاجل الى الحكومة المؤقتة لتلتفت الى وضعياتنا وحالات امثالنا ...المهم ان يوفروا لنا مساكن ولايهم ان كانت في هذه الاقامة او في اماكن اخرى».
هروبا من «القاراجات»
أكثر من مواطن أكد لنا انه اضطر الى الاقدام على هذه العملية لأن عيشه كان لا يطاق ذلك انهم كانوا يقطنون ب«قاراجات» على وجه الكراء بلا ماء ولا كهرباء .وهو ما تؤكده نجاة العبيدي بقولها «أنا مطلقة وكنت أسكن في قاراج لنكون عرضة لقر الشتاء وحر الصيف... لا يمكن ان تتصوروا معاناتنا بل اننا مدفونون بالحياة «كما يقال... أعرف اننا تجاوزنا القانون لكن لابد ان تقف الاطراف المسؤولة الى جانبنا في محنتنا ويجدون لنا الحلول المناسبة لتخلصنا من كابوس سنوات المعاناة». من جانبها أوضحت سعاد عيسى انها كانت بدورها تقطن ب «قاراج» تذوقت بداخله على مدى السنوات الماضية مختلف الوان العذاب وهي نفس الوضعية التي كانت تعيشها علجية بوزيد التي قالت «اعاني من إعاقة وزوجي هارب الى ليبيا وفي كفالتي ثلاثة ابناء.. لم أخلع أو أكسر وانما استوليت على هذا المسكن نظرا لحاجتي الملحة اليه ...وما نتمناه ان تنظر الينا الحكومة المؤقتة بعين الرحمة خصوصا ان كل ابناء الشعب ساهموا في ثورة الكرامة».
التهميش هو السبب
كل الذين التقيناهم شددوا على انهم عانوا طوال السنوات الماضية من شتى انواع التهميش الذي حكم عليهم بالعدم مما دفعهم الى الاقدام على الاستيلاء على هذه المساكن وهو ما أكده عامر حمدي بقوله «أقطن على وجه الكراء منذ 26 سنة كاملة فكيف لي أن أقتني منزلا وأنا أعيش من «الزبلة» وأنبش بقايا فضلات الناس... ورغم اني توجهت في مئات المناسبات الى العمدة والمعتمدين السابقين فاني لم أجد الا السراب والاقصاء والتهميش في الوقت الذي حصلت فيه آلاف الناس على مساكن اجتماعية». وفي ذات الاتجاه أوضح علي المالكي ان اللامبالاة التي عانت منها هذه الفئة من الأطراف المسؤولة بالنظام البائد اضطرتهم الى التوجه الى هذه المساكن واستغلالها الى حد ان تتضح الأمور اثر استتباب الأمن واستقرار الأوضاع مناشدا بتمكينهم من هذه المحلات وفق صيغ مختلفة وحسب الحالة الاجتماعية لكل عائلة خاصة ان البعض عبر عن استعداده الى خلاص هذه المساكن اذا كانت بمبالغ معقولة وبطريقة خلاص تتماشى مع امكانيات «الزواولة».
معتمد سابق ألقى بأدباشي في الشارع
حكاية غريبة سردتها لنا المواطنة شدلية بنور حيث كشفت لنا ان معتمد سابق ألقى بأدباشها في الشارع منذ اللحظات الأولى لسقوط النظام الاستبدادي وكأنه أراد رد الفعل على هذه المرأة المسكينة التي كانت تقطن لديه منذ فترة طويلة على وجه الكراء .واضافت انها لما شاهدت المواطنين بصدد الاستيلاء على هذه المساكن سارعت بدورها للحصول على احد المحلات السكنية راجية ايجاد حل لها في الايام القادمة يريحها من معاناتها.
في انتظار استقرار الأوضاع
لئن كنا نعيش منذ سقوط النظام البائد شتى أنواع المتناقضات التي فاجأتنا بها الأيام الماضية في مختلف الميادين، وفي ظل التبريرات المتنوعة من مختلف المواطنين فان استقرار الأوضاع في الايام المقبلة سيسمح لمختلف الأطراف لاعادة النظر في كل الملفات والتجاوزات .ورغم ذلك فانه يتحتم على الحكومة المؤقته الانصات الى الفئات المهمشة التي عانت طويلا من الاقصاء واللامبالاة والاسراع بايجاد حلول تضمن لها حق السكن والشغل والعيش الكريم وفق آليات مختلفة لأن الشعب الذي ضحى بالشهداء والدماء في ثورة الكرامة تستحق فئاته المهمشة على وجه الخصوص وضع حد لعذابها ومعاناتها.