سذاجة الشخصية السياسية العربية الرسمية إن الباحث الاجتماعي المتتبع للسلوك السياسي الجماعي العربي إزاء إسرائيل في السنوات الأخيرة يكتشف أن هناك ما يسمى في العلوم الاجتماعية المعاصرة نمطا من الشخصية السياسية القاعدية العربية الرسمية. ويعني هذا المفهوم الأخيروجود شخصية سياسية عربية رسمية نموذجية تعكسها أغلبية السلوكات السياسية الرسمية إزاء الدولة العبرية.يتمثل هذا السلوك السياسي الجماعي لمعظم الأنظمة العربية في اعتقاد تلك الأنظمة أن الكيان الصهيوني يرغب فعلا في إقامة سلم عادلة مع الفلسطينيين ومع العرب بصفة عامة.ومن ومنظور علم النفس الاجتماعي،فإن ذلك الاعتقاد أدى بالعديد من الحكومات العربية إلى تبني سلوكات سياسية ميدانية تتمثل بالتحديد في إقامة علاقات دبلوماسية و/أوتجارية و/ أو تواصلية مع الحكومات الإسرائلية المتتالية.وجاءت مبادرة القمة العربية في بيروت لتؤكد جماعيا أن العرب يرغبون في إبرام سلم مع إسرائيل إذا انسحبت هذه الأخيرة من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967. ونتذكر أن الرد الإسرائيلي على تلك المبادرة العربية لم يتأخر. فكان الهجوم الحربي للتو على الضفة الغربية ومحاصرة عرفات أكثر الأمر الذي جعله غير قادر على حضورالقمة. فاضطر إلى إلقاء خطابه عن بعد.. ورغم ذلك، استمرت حسن نية الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية إزاء العدو الإسرائيلي. فتعددت اللقاءات بين محمود عباس ومساعديه مع رؤساء الوزراء الإسرائيليين وأعضاء حكوماتهم. ويحضر ممثلو كل الدول العربية تقريبا مؤتمر أنابوليس بالولاياتالمتحدةالأمريكية اعتقادا منهم أن إسرائيل وحليفتها الأمريكية يودان فعلا الوصول إلى حل للنزاع الإسرائيلي مع الفلسطنيين والسوريين واللبنانيين. ثم جاءت تصريحات الرئيس بوش وإدارته بخصوص تحقيق اتفاق مع نهاية 2008 بين الفلسطينيين والإسرائيلين يضع حدا للنزاع بينهم. وكما نعرف غادر بوش البيت الأبيض دون حصول أي شيء ملموس على أرض الواقع يبشرفعلا بقرب نهاية الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية بل تستمرحركة الاستيطان الصهيوني على أشدها في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة التي تشرف عليها السلطة الفلسطينية في رام الله. معالم تراجع سذاجة الأنظمة العربية تفيد الملاحظات السابقة فقدان حسن نية الطرف الإسرائيلي في الوصول إلى حالة سلام عادل مع الفلسطينيين وسوريا ولبنان.وبالتالي لم ترحب حكومات إسرائيل بالمبادرة العربية ولا هي كانت راغبة في إنجاح عمليات المفاوضات المتكررة لسنوات طويلة مع السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا ومن طرف إسرائيل نفسها وهو ما أدى إلى تذمر محمود عباس وأعضاء سلطته في الضفة الغربية وإلى التصريح أخيرا أن الدولة العبرية لاتريد السلام مع الفلسطينيين. فكأن مثل هذا التصريح يشير إلى أن السلطة الفلسطينية كانت ساذجة في اعتقادها وحسن نيتها إزاء الطرف الإسرئيلي المحتل للأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية. وتنطبق حالة السذاجة هذه على أغلبية الأنظمة السياسية العربية. وظلت السذاجة السياسية العربية الرسمية على حالها حتى جاء الهجوم الوحشي على قطاع غزة الأمر الذي جعل البعض من تلك الأنظمة تستيقظ من سباتها الطويل وتدرك البعض من معالم موقفها الساذج إزاء النوايا الحقيقية لساسة وضباط وجنود إسرائيل. لقد شنت الدولة العبرية حرب إبادة وارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية كما شهد على ذلك الهجوم العسكري الوحشي البربري على أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009. فقد بدى ملك الأردن مرتبكا وحائرا إزاء النوايا الحقيقية لإسرائيل من ارتكابها مجازر ضد المدنيين في غزة. وصرح قائلا: أنا متخوف مما سوف يلي القصف الإسرائيلي لاهل غزة. وكما أصبح معروفا فإن العدو الإسرائيلي قد استعمل قنابل الفسفور والقذائف المدفعية وبقية الأسلحة الفتاكة جوا وبرا وبحرا والتي طالت كل شيء في غزة : البشر والشجر والحجر والدواب الأهلية والوحشية على حد سواء. فكأن الملك الأردني يلوح رغم إقامته علاقات ديبلوماسية مع الدولة العبرية بأن قادة إسرائيل بعملهم الوحشي هذا يناقضون الاعتقاد السائد والساذج عند معظم حكام العرب بأن إسرائيل ترغب في إقامة سلام عادل مع جيرانها العرب.كما يتجلى الشعور بالقلق والخوف من سوء النوايا الإسرائلية في إعلان أعلى هرم السلطة السياسية بالمملكة العربية السعودية، هذا البلد العربي الذي يوصف بالإعتدال في الغرب ولدى إسرائيل. ففي القمة العربية الإقتصادية بالكويت أشار الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى أن مبادرة السلام العربية لن تبقى طويلا على الطاولة أمام اللامبالاة الإسرائيلة آثارحرب غزة على المستوى الرسمي على صورة إسرائيل عند المسلمين والمسيحيين إن مارأيناه من بداية لتراجع سذاجة بعض الحكام العرب إزاء الطبيعة العدوانية لساسة وضباط وجنود الكيان الصهيوني امتد على المستوى السياسي الرسمي بأكثر قوة وصراحة خارج فضاء أغلب أنظمة الحكم في العالم العربي. فقررت كل من فينزويلا وبوليفيا طرد السفير الإسرائيلي من عاصمتيهما.أما رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان فقد انتقد بشدة وبدون تردد أو خجل أثناء الحرب وبعدها ساسة إسرائيل وعسكرييها على هجومهم الوحشي على أطفال ونساء وشيوخ غزة. ويمثل رد أردوغان على الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في منتدى دافوس بسويسرا في 30/01/2009 ملخصا للموقف الرسمي السياسي التركي من العدوان الإسرائيلي الظالم على غزة. لقد وبخ أردوغان بيريز على الأكاذيب التي وردت في خطابه أمام الحاضرين في المنتدى، كما وبخ أيضا الذين صفقوا لما جاء من تشويه للحقائق في كلمة المسؤول الإسرائيلي. وذكر أردوغان بيريز والحاضرين بالحقد الدفين لدى الإسرائيليين ضد الفلسطينيين. فقد قال إن رئيسي وزراء لحكومات إسرائيل ذكرا له أنهما يكونان فرحين عندما تتوغل الدبابات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية وتقصف سكانها. وأكد أنه يستطيع أن يسمي هذين الرئيسين. ثم غادر أردوغان المنصة احتجاجا على عدم إعطائه نفس الوقت للحديث كما أعطي بيريز. وقرر أنه لن يعود مرة ثانية إلى هذا المنتدى في السنوات القادمة. وفي هذا المشهد الدرامي الذي يشرح فيه رئيس وزراء تركيا أمام الحاضرين سياسة الإبادة الإسرائيلية لسكان غزة ثم يخرج احتجاجا على المصفقين وعلى رئيس الجلسة يرتبك أمام المشاهدين السيد عمرو موسى ويكتفي بمصافحة أردوغان المغادر للقاعة. أي ان الأمين العام للجامعة العربية ممثل الدول العربية عز عليه ترك كرسيه فرجع إليه للتو عوض أن يساند بقوة بسلوك مشرف موقف أردوغان أمام الحاضرين. وبوضوح، تتمثل رسالة أردوغان في المنتدى وقبله وبعده في أن احترام الأعداء والأصدقاء لايتحقق بالإستجداء والمهادنة إلى حد التذلل.وهذا ما يغلب اليوم، مع الأسف، على معظم مواقف الأطراف العربية الرسمية. أما على مستوى الرد الرسمي الأوروبي والأمريكي على الهجوم الإسرائيلي البشع على غزة، فإن المسؤولين الحكوميين لا يصرحون بأي شيء يلومون به إسرائيل ناهيك عن التنديد بسلوكات جرائم الحرب لنظام الدولة العبرية في هجومها الوحشي على الجامد والحي في قطاع غزة. فالرئيس الأمريكي براك أوباما ظل صامتا ومتحيزا للكيان الصهيوني قبل وبعد انتهاء الحرب في غزة. ومن جانبهم، هرول رؤساء دول الإتحاد الأوروبي بعد اجتماعهم في شرم الشيخ مع الرئيس مبارك للقاء ومساندة من أعطوا الأوامر في أسرئيل لشن ذلك الهجوم البربري على غزة. وعي الشعوب الصاعد بعدوانية إسرائيل وفي مقابل تعدد المواقف الرسمية للدول والحكومات في العالم العربي وفي تركيا وفي أمريكا اللاتينية وفي أوروبا وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية التي أشرنا إليها، فإن هناك، لأول مرة، بداية هبة غير رسمية لافتة للنظر تشير إلى ميلاد وعي شعبي لايستهان به في مجتمعات غيرعربية وإسلامية نحو إدراك الطبيعة العدوانية لدولة إسرائيل. وقد أدى هذا الوعي الجديد إلى تظاهرات شارك فيها آلاف المواطنين منددين بالعدوان الإسرائيلي على غزة في عواصم ومدن المجتمعات الغربية في أوروبا والأمريكيتين وأستراليا. وهي ظاهرة مفاجئة للعقول المفكرة والمدبرة والمخططة والساسة والعسكريين في المجتمع الإسرائيلي. إذ يصعب الإقدام على القيام بغزو غزة بتلك الطريقة الوحشية لوأنهم كانوايتصورون وقوع النكسة الكارثية لسمعة إسرائيل بين شعوب العالم الغربي المسيحي على الخصوص. إن ما أصاب ويصيب سلبيا سمعة الدولة العبرية عالميا بسبب عملها العسكري الوحشي في غزة أسوأ مما أصاب ويصيب سلبيا سمعة الولاياتالمتحدةالأمريكية عالميا منذ غزوها للعراق في 2003. هذا الوعي الجماهيري الصاعد في أوروبا والشرق الأوسط تجسم في تكوين شبكة من الهيئات واللجان لملاحقة ومحاكمة الإسرائليين المرتكبين لجرائم الحرب في غزة مثلهم مثل النازيين. وهوحدث يقع لأول مرة في أوروبا ضد الساسة والعسكريين الإسرائليين. وقد دشن القضاء الإسباني عملية التحقيق في جرائم الحرب التي يوجه الإتهام فيها إلى كبارالمسؤولين الإسرائليين مثل بن أليعازر. وينتظرأن يكون فتح القضاء الإسباني لهذا التحقيق مجرد بداية لما سوف يتلوه في الأسابيع والأشهر والسنوات القادمة من تحقيقات عديدة في المحاكم الأوروبية وفي طليعتها محاكم النرويج وفرنسا وبلجيكيا وبريطانيا. إن استفاقة الوعي العالمي بجرائم نظام الدولة العبرية ضد الفلسطينيين في غزة على الخصوص لم يكن عموما ينتظر وقوعها لا الفلسطينيون ولا العرب ولا الإسرائيليون.فيبدو أن الأمركان مفاجئا للجميع،فأحرجت أنظمة عربية كثيرة من المظاهرات الشعبية الصاخبة التي عرفتها العواصم والمدن والقرى. وغضب العسكريون والسياسيون الإسرائيليون الكبار من أمواج الإحتجاجات العارمة التي شهدتها بعض العواصم والمدن الأوروبية لمرات متكررة تعاطفا مع أهل غزة، من ناحية، وتنديدا بفظائع الهجوم الإسرائيلي الوحشي على المدنيين بغزة من أطفال ونساء وأطباء ومسعفي المستشفيات، من ناحية أخرى فالوعي العالمي المتصاعد في إدراك الطبيعة العدوانية للدولة العبرية يمثل جبهة جديدة يكون الانتصار فيها من أقوى أسلحة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية في مقاومتها وكفاحها ضد المشروع الإسرائيلي الذي يغتصب الأراضي العربية ويسلب الفلسطينيين حقوقهم المشروعة في إقامة دولتهم. إن كسب معركة الوعي العالمي ضد صورة إسرئيل السائدة في القارات الخمس ممكن خاصة بعد مشاركة وتحمس جهات ومنظمات عالمية للقيام بالتحقيقات في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في غزة وفي غيرها وملاحقة ومحاكمة المسؤوليين الإسرائيليين بسبب ارتكاب تلك الجرائم. تفيد آخر المعلومات أن هناك 320 منظمة حقوقية ومعنية بحقوق الإنسان مهتمة بالملف الإسرئيلي. فقد بلغ اهتمام هذه المنظمات ذروته في اجتماع ممثليها في جنيف على مدى يومي 17و18/01/2009 حيث شدد المجتمعون على عدم إفلات المجرمين من العقاب، لا لمحاسبتهم على قتل وجرح الآلاف من المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ فقط، بل لأن إفلات الإسرائيليين وحلفائهم في واشنطن وغيرها من العواصمالغربية على الخصوص من العقاب على مجازر وجرائم عديدة سابقة كان دائما عاملا رئيسيا من العوامل التي شجعت قادة إسرائيل على اعتماد القتل الجماعي المتكرر على مدى ستين عاما كاملة.ومن المؤكد بهذا الصدد أن عمليات الملاحقات والمحاكمات سوف لن تقتصرعلى قادة الدولة العبرية وحلفائها بل ينبغي أن تمتد أيضا إلى الشركات والمؤسسات التي تخصص جزءا من مواردها لصالح الكيان الصهيوني مثل كبرى المطاعم والمقاهي العالمية. وقد تتوسع الدعاوى القضائية لتشمل كذلك الحكومات التي تمول الجيش الإسرائيلي بالأسلحة الفتاكة والمحظور استعمالها دوليا باعتبار تلك الحكومات شريكة في جريمة الحرب والإبادة الجماعية، خصوصا أن بعضها كالحكومة الأمريكية وحكومات عدة دول غربية لها ما يكفي من الملفات المثقلة بقضايا جرائم الحرب والتعذيب والإختطاف القسري والإيذاء بكل أصنافه وألوانه. إن فتح هذه الجبهة القانونية والقضائية ضد الدولة العبرية وحلفائها ينبغي أن يتبناها بالكامل الفلسطينيون والعرب وأحرار العالم ومحبو الإنسانية على هذه الكرة الأرضية. وإن جبهة مركزية تتكامل مع الجبهات الأخرى: السياسية والإقتصادية والدبلوماسية والإعلامية والثقافية والتربوية.بهذه المنظومة من الجبهات المتشابكة تقوى حظوظ انتصار الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين لطرد الاحتلال الإسرائيلي من أراضيهم وكشف القناع عن الوجه العدواني الحقيقي لإسرائيل أمام العالم بأسره. ومن منظور علم اجتماع المعرفة يمكن فهم مثلا سبب تحمس المنظمات الحقوقية والإنسانية الأوروبية لملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب في إسرائيل.يرجع ذلك إلى عاملين رئيسيين: 1 تعرض العديد من الشعوب الأوروبية لجرائم الحروب النازية. فالكثير منهم يرى وجه تشابه كبير بين جرائم القتل والإبادة التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل في غزة وفي غيرها من قبل في الأراضي الفلسطينية والعربية المجاورة للدولة العبرية والجرائم النازية. .2 تتصف المجتمعات الأوروبية بمستوى عال من ثقافة الدفاع عن القوانين وحقوق الإنسان.ومن ثم تفهم مشروعية درجة تحمس تلك المنظمات المفاجئة للإسرائليين والعرب على حد سواء. إنه تحمس صلب إذ ينبع من قيم ثقافية متجذرة في شخصيات ممثلي تلك المنظمات.تتمثل تلك القيم في قوة موقفها بالنسبة للدفاع عن احترام القوانين العالمية والمحلية، من جهة، ورباطة الجأش في صيانة منظومة حقوق الإنسان، من جهة أخرى. أهمية المقاومة على الجبهة الثقافية لا يسع على الخصوص عالم الإجتماع الثقافي إلا أن يؤكد أن إسرائيل قد فتحت على نفسها من حيث لاتدري في مطلع 2009 جبهة ثقافية ليست لصالح صورة إسرائيل .فالقيم والتصورات المنحازة للدولة العبرية منذ نشأتها في الغرب مرشحة للتغيير لصالح حقوق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.لكن يشير علم الإجتماع الثقافي إلى أن تغيير القيم الثقافية والعقليات أمر بطيء. لكن يمكن الدفع به حثيثا إلى الأمام إذا عرفت تلك المنظمات وممثلوها آليات واستراتيجيات الإسراع في التغيير الثقافي في المجتمعات البشرية.ونظرا لنمط بط ء مسيرة التغيير الثقافي فإن طول النفس والصبر مطلوبان لسنوات عديدة قادمة لإمكانية كسب رهان أعز معركة لصالح العرب في صراعهم الطويل ضد اغتصاب فلسطين واحتلال أراضيهم ولصالح العالم بأسره. إذ ينتظرأن تتجلى الطبيعة الحقيقية لعدوانية إسرائيل لمعظم سكان القارات الخمس من خلال سلسلة الملاحقات والمحاكمات التي سوف يتعرض لها الإسرئيليون وحلفاؤهم في المستقبل القريب. (*)عالم الإجتماع العنوان الإلكتروني :