بين حماس واسرائيل حرب كلامية لاتهدأ، فكلاهما يدعي أنه حقق الانتصار في حرب غزة.. و هذا التباهي يحصل فوق الرماد والركام والحطام والاشلاء البشرية وعلى خلفية مشهد مريع: مشهد المشردين والمعذبين والمحرومين من أبسط مقومات الحياة الكريمة والغارقين في الاحزان واللوعة والاحباط والضياع. فعن أي انتصار يتحدث هذا أو ذاك؟... من خلف وراءه هذا المشهد المريع بأي شكل من الاشكال وبأي دور من الادوار لا يمكن أن يتحدث عن الانتصار... فهل كان يتوقع من دولة عنصرية عربيدة مثل اسرائيل أن لا ترد الفعل بتلك الطريقة الشنيعة وبعد أن هدّدت وتوعّدت وبعد أن تبيّن أنّها ستنفذ تهديدها ووعيدها؟ وهل كان متوقعا أن تقف في وجهها أمريكا في عهد رئيس أمريكي يؤمن مثلها بالاساليب القصوى لتأديب العرب واهانة المسلمين عمدا ومعاملتهم بأشد ما يكون من القسوة والعنف؟ حقائق كانت معروفة وملموسة وكان يجدر التعامل معها قبل فوات الاوان بحكمة وتدبر وكان من المفروض استباق الاحداث وعدم المجازفة بحياة الناس وأمنهم ومكاسبهم ومصيرهم.. وبعيدا عن هذه الخلفية المهزلة لما بعد محرقة غزة تأتي الانعكاسات السريعة التي اتضحت الان على ثلاثة مستويات وحملت معها مفاجآت لم تكن متوقعة: فتل أبيب لم تقرأ حسابا لهذه الحملة الدولية المصرّة على محاكمة قادتها السياسيين والعسكريين بتهمة ارتكاب جرائم حرب و في الجانب الاخر لم يكن أحد يتوقع أن يصبح اعمار غزة والتفاوض مع اسرائيل من أجل التهدئة قضية تتطلب وحدة الصف الفلسطيني وتحقيق المصالحة التي كان الجميع لا يعيرها ما تستحقه من أهمية ويتجاهل ما تنطوي عليه من أبعاد استراتيجية كبيرة ومصيرية: اذن تتركز انعكاسات حرب غزة الان على ثلاثة مستويات: أولا: على مستوى المتابعة والمحاسبة: لم يسبق أن انتهى نزاع مسلح في الشرق الاوسط بفتح ملفات للمحاكمة والمحاسبة أمام الهياكل الدولية المختصة على غرار ما وقع مثلا بعد حرب البوسنة والهرسك و قد كانت كل الاعتداءات الاسرائيلية تنتهي ببيانات وقرارات تصدرها الجمعية العامة للامم المتحدة أو مجلس الامن وتبقى حبرا على ورق رغم أن كل الاعتداءات السابقة صاحبتها عمليات ابادة وجرائم حرب.. لكن هذه المرة كانت صحوة الضمير الانساني قوية وجدّية ممثلة في منظمات المجتمع المدني التي لم تتأثر بالمواقف الرسمية وتحركت طبق ما يمليه عليها القانون والاخلاق والتضامن المطلوب بين كل البشر على وجه الارض. رجال الفكر والقانون والسياسة المستقلين من كل أنحاء العالم وعشرات المنظمات الدولية والحكومات المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية وبالمساواة بين جميع الناس اتفقت كلها على أن تقع محاسبة الذين تلطخت أيديهم بدماء أطفال غزة وسمحوا باستعمال أسلحة محرمة وأعطوا الاوامر بتجميع المدنيين بالمئات وقصفهم بالطائرات في محرقة لا مثيل لها في العصر الحديث سوى ما حصل لليهود أنفسهم في الحرب العالمية الثانية أو للكمبوديين على أيدي الخمير الحمر أو ما حصل في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب.. و تبدو الحملة على جانب كبير من التنظيم والحيوية والجدية والاصرار على تحقيق أهدافها و قد توصل رجال القانون المشاركين فيها إلى تحديد التهم وعناصر الادانة وقائمة المتهمين الذين يأتي في مقدمتهم: ايهود أولمرت وتسيبي ليفني وايهود باراك وشمعون بيريز وقادة الجيش والعسكريين المحددين برتبهم وأسمائهم والجرائم المنسوبة اليهم.. ولا يخشى القائمون على الحملة رد فعل إسرائيل أو تحرك لوبياتها المؤثرة وعملائها والمتعاطفين معها والذين يخدمون ركابها لانهم على يقين من ثبوت التهم ومن صحة اجراءات التتبع ولانهم شاعرون أكثر من أي وقت مضى بأن الوقت قد حان لكي تأخذ اسرائيل نصيبها من التأديب وأن يقع ردعها وايقاظها من أحلامها الزائفة وحتى تدرك أن العالم لا يمكن أن يتغاضى طويلا عن خرقها للقوانين والاعراف الدولية والمبادئ الانسانية وأن يبقى مكتوف الايدي ازاء ما تمثله من خطر على السلم والامن الدوليين وازاء عربدتها التي الحقت الاهانة بالمجموعة الدولية بدون استثناء. مع ذلك فان محاكمة الذين إقترفوا جريمة غزّة لا يجب أن تقتصر على تلك الحملة الدولية بل من المفروض أن تكون هناك حملة عربية موازية ونشيطة لا تتوقف ولا تتوانى حتى حصول الادانة فقد آن الاوان لتحرّك عربي جماعي لايقاف هذه الجرائم الصهيونية التي أصبحت تتكرّر كل عام تقريبا منذ أن عادت السلطة الفلسطينية إلى الارض المسلوبة، وامتدت إلى الدول العربية المجاورة كلبنان وسوريا والعراق حيث عاثت الصهيونية فسادا في العباد والبلاد وشواهد التاريخ وزرعت الفتنة التي تسببت في الحرب الاهلية الدموية بين العراقيين.. وحتّى لا تأخذ إسرائيل على هذا الاسلوب الوحشي في التعامل مع الشعوب العربية وحتّى تنزع الصهيونية من فكرها المتعفّن تلك النظرة المهينة للعرب والاسلام فلا بدّ من تلك الوقفة العربية الجماعية واستغلال الفرصة المتاحة الان للحصول على أحكام دولية جنائية ضد مجرمي الحرب مّما سيمثل درسا لاسرائيل لن تنساه وستعرف عندها أنّ الدّم العربي لا يمكن استباحته بدون ثمن وهو غالي ونفيس لا يمكن هدره بدون محاسبة مهما طال الزمن.. ولقد حان الوقت كذلك لتدرك إسرائيل أن السلام العادل لا مفرّ منه.. والقوة لن تحقق الامن لاي كان والجرائم ضد الانسانية وحروب الابادة ستظل وصمة عار عالقة بالصهاينة على مر التاريخ.. وفي المقابل على العرب أن يدركوا بدورهم أنه لا مفر لهم من مواجهة اسرائيل ان لم يكن بالسلاح فبالقانون والشرعية الدولية لكن عليهم أن لا يتوانوا في ذلك أو يختلفوا أو يتركوا هذا الواجب لغيرهم مهما كانت مكانته وتأثيره.. ولا أقل اليوم من مواجهة إسرائيل قانونيا إذا كانت مواجهتها بطرق أخرى غير متاحة او غير مرغوب فيها عربيا.. ثانيا: على المستوى الاسرائيلي: كانت الحرب على غزة محورا أساسيا من محاور المعركة الانتخابية في اسرائيل.. فعلى جثث المدنيين الابرياء من أبناء فلسطين تسابق قادة الاحزاب السياسية الاسرائيلية لكسب الاصوات والفوز بمقاعد الحكم، وقد أفرزت صناديق الاقتراع توجها واضحا للاسرائليين نحو تكريس سياسة الابادة والتقتيل اذ فازت أحزاب اليمين المتطرفة التي ليس لديها خطة سلام بل مشروع استسلام جاهز ترى أن أفضل سبيل لتحقيقه هو فرضه بقوة السلاح والترهيب الى حد الابادة.. وقد تبين من خلال الانتخابات الاسرائيلية أن هناك رغبة واضحة في تكريس أسلوب القوة وهو ما عكس النزعة العنصرية المشحونة بالكراهية المتأصلة لدى الاسرائيليين تجاه العرب والمسلمين مما يؤكد مرة أخرى أن الاستقرار والسلام ما زالا بعيدي المنال في المنطقة طالما ظل رجال السياسة في اسرائيل يتنافسون على ارضاء تلك النزعة العنصرية الانتقامية ويعتقدون أن أمنهم لا يتحقق إلا بالقوة والتوسع والهيمنة. ان صعود اليمين المتطرف سواء بقيادة بنيامين ناتنياهو أو تسيبي ليفني كان أيضا نتيجة من نتائج الحرب على غزة، فتلك ارادة الاسرائيليين اليوم وتلك رغبتهم، فهم يكافئون قادتهم على ما فعلوه في غزة بل هم يطالبون بأكثر من ذلك عندما تتجه ارادتهم الى مزيد دعم أقصى اليمين واليمين العنصري، وقد فهمت حكومة تصريف الاعمال التي يقودها السفاح أولمرت الرسالة الموجهة من الناخب الاسرائيلي فعمدت إلى تغيير موقفها في مفاوضات القاهرة حول التهدئة واشترطت اطلاق سراح الجندي الاسير لدى حماس للموافقة على التهدئة وهو الشرط الذي ترفضه حماس وتتمسك بأن يظل مسألة تخص المفاوضات حول تبادل الاسرى فقط.. اذن يمكن القول أن اسرائيل ماضية في اختيارها المبني على القوة والارهاب والترهيب وهي عائدة الى غزة بأسلحتها المحرمة والفتاكة لتكمل عملية الابادة مما يدعم الاحتمال بأن تكون الحرب على غزة في بعد من أبعادها تحضيرا أو تدريبا للهجوم على ايران فهي بلا شك اختبار لمدى قدرة طهران على اسعاف حلفائها عند الشدة ومدى استعدادها للتضحية من أجلهم وهي بهذا المنظور تشكل استفزازا للايرانيين وهي أيضا رسالة الى طهران تفيد بأن البداية ستكون من هنا: من فلسطين.. وهذه لمحة أو صورة مصغرة لما قد يحدث قريبا في ايران بالذات؟ لكن الوضع السياسي في اسرائيل بعد الانتخابات يضع الفلسطينيين قبل أي طرف اخر في مأزق كبير: فهم الخاسرون بلا شك في أي مواجهة عسكرية واذا عاد الهجوم على غزة فلا خيار لهم الا الموت الجماعي أو الهروب والعودة الى حالة الضياع والتشرد.. وهم كذلك الخاسرون في أي عملية تفاوضية قد تقبلها الحكومة اليمينية المقبلة لان هذه الحكومة ستتفاوض من منطلق التفوق العسكري وخيار القوة الذي أيده المجتمع الاسرائيلي من خلال الانتخابات وهي لن تعطيهم شيئا خاصة اذا ترأسها ناتنياهو الذي يتأهب لفسخ كل التفاهمات السابقة مع الفلسطينيين هكذا فإن الحرّب على غزّة تخلّف كارثتين ثقيلتين: كارثة انسانية وكارثة سياسية.. ولا مناص من تكثيف الجهود العربية لمواجهة هذا الوضع المعقد الذي ينتظر القضية الفلسطينية ومصير السلام في المنطقة، ومن أجل ذلك يتعين اعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أساس المصالحة التي لم يعد هناك مفر منها... ثالثا: الانعكاسات على المستوى الفلسطيني " بمجرد أن توقف الهجوم العسكري على غزة دخلت حماس وفتح في سلسلة من الاتهامات كان واضحا أنها تهدف بالنسبة لكل طرف الى تبرير موقفه وابعاد التهم عنه وعدم تحميله مسؤولية المأساة والمعاناة والمحنة التي حلت بالشعب الفلسطيني... وسرعان ما اكتشف الطرفان أن المصيبة أكبر بكثير من صراعاتهما التي أهدرت الجهد والوقت وأضعفت الموقف الفلسطيني الى أبعد حد أمام العدو الاسرائيلي المشترك وأن الاستحقاقات العاجلة والمطلوبة تتعلق أولا وقبل كل شئ باعادة اعمار غزة وانقاذ أهلها من الوضع الفظيع والمحزن الذي حل بهم، وهذا لن يحصل الا بتحقيق المصالحة بين فتح وحماس فلا اعمار ولا انقاذ الا عبر المصالحة... وثانيا لا بد من التوصل الى تهدئة مع اسرائيل من أجل فتح المعابر وايصال المساعدات.. واذ يبدو أن اتفاق التهدئة مع اسرائيل قد سقط في الماء بسبب السياسة الاسرائيلية المتجهة أكثر فأكثر نحو التشدد والتطرف فان المصالحة الفلسطينية تنتظر موعد انطلاقها في القاهرة الذي تأجل بسبب تراجع الموقف الاسرائيلي بخصوص التهدئة رغم أنه كان متوقعا بأن يذهب الحوار الفلسطيني هذه المرة الى بعيد أي الى الهدف المنشود وهو الاتفاق على تجاوز نقاط الخلاف والاعداد المشترك للانتخابات التشريعية والرئاسية التي ستفصل بين الطرفين وستفتح المجال لاصلاح ما أفسدته القرارات والمواقف السابقة التي أدت الى المأزق الانساني والسياسي الراهن.. وليس أمام الفلسطينيين الا المصالحة في أقرب وقت لمواجهة التطرف الاسرائيلي القادم ولوضع حد للمأساة التي يعيشها أهل غزة المنكوبين ولاعادة النضال الفلسطيني إلى عهد الوئام الذي كان فيه نضالا شديدا على الواجهتين السياسية والعسكرية مع الاخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة عربيا- وإقليميا ودوليا.. إنعكاسات حرب غزّة دفعت دور الوساطة المصرية إلى الواجهة مدعومة بدور تركي نشيط بتنسيق مع دول أوروبية مؤثرة مثل فرنسا وإيطاليا وانقلترا وألمانيا.. ولعلّ ما يفسّر بروز تلك الوساطات وخاصّة المصرية والتركية هو أولا غياب الدور الامريكي بسبب الفترة الانتقالية الرئاسية بين بوش وأوباما وكذلك عدم رغبة أمريكا وأوروبا في التفاوض مباشرة مع حماس، وأيضا تدخل مصر مباشرة في الازمة باعتبار وجود غزّة على حدودها ومسؤولياتها على أهمّ المعابر التي يستعملها الفلسطينيون وهو معبر رفح ولا ننسى من جهة أخرى وجود رغبة عربية واضحة هذه المرة في التواجد على ساحة الازمة سياسيا للشعور بأن أبعادها قد تؤدي الى تأثيرات عميقة وخطيرة على الاوضاع الداخلية العربية وخاصة على التوازنات الاقليمية.. أمّا بالنسبة لتركيا فهي تتدخل بصفة غير مسبوقة في أزمة تهم الصراع العربي الاسرائيلي اذ لم تكن لتركيا في السابق علاقات مميزة مع منظمة التحرير مثلا أما اليوم فالعلاقات بين الحزب الحاكم في تركيا وحركة حماس أقل ما يقال فيها أنها متناغمة أو متقاربة جدا كما أن لتركيا علاقات تكاد تصل الى مستوى التحالف مع إسرائيل مّما يخول لها القيام بوساطة لها حظوظ كبيرة للنجاح بين الطرفين أي حماس واسرائيل.. إلاّ أنّ الامر انقلب إلى خلاف تركي إسرائيلي بسبب فظاعة المجازر التي إرتكبتها إسرائيل والتي ترى أنقرة انّه لا يمكن المرور عليها مرّ الكرام وأي تبرير لها يمثّل إصرارا على الجريمة ويستوجب الرد حتى ولو كان على طريقة رجب طيب أردوغان في وجه العجوز السفاح بيريز.. لهذا فإنّ تركيا قد تكون فقدت مكانتها كوسيط في ظلّ ما إعترى علاقاتها مع تل أبيب من توتّر،، أمّا مصر فهي تحاول حلحلة المواقف الفلسطينية بخصوص المصالحة وإستعمال الدور الاوروبي للضغط على إسرائيل من أجل التهدئة وهي الان أمام استحقاق على درجة كبيرة من الصعوبة فلا بد من التهدئة مع اسرائيل للمرور الى المصالحة الفلسطينية واذا انقطع الامل في التهدئة انقطع الامل في المصالحة وتأخر اعمار غزة وانقاذ سكانها وهذه نتيجة لا ينبغي أن يرضى بها العرب لانها ستفرض منطق القوة الذي بسببه وقعت غزة في المحرقة وبسببه سيتصاعد تيار العنف من جديد في المنطقة وهو بالذات ما تبحث عنه اسرائيل لتحقيق أهدافها وفرض السلام كما تريده وجر العرب وليس الفلسطينيين فقط الى الاذعان لارادتها...