: قرأت في تمعن ماكتبه الأخ العزيز محمد البشير بوعلي بشأن كتاباتي الأخيرة حول برنامج الاتجاه المعاكس وموضوع رسالة أخرى تعلق مضمونها بزيارتي للقنصلية التونسية قصد المطالبة بحق عائلي ودستوري في جوازات سفر تونسية , وأردت أن أحييه بالمناسبة على صدق نبرته النقدية وحرصه على بيان وجه الخطأ أو الزلل في ماأكتبه أو أدلي به من مواقف واراء لم أدع لها العصمة أو الاكتمال , بل أؤكد مجددا على أنها محاولة متجددة لاحداث حراك فكري وسياسي يهدف الى اثارة نقاش وطني يرتفع بنا الى مقام وضع بلادنا ومنطقتنا على طريق النماء والاصلاح الدائمين . لقد حرصت من خلال نشري لمضمون مقال الأستاذ محمد البشير بوعلي على صفحات الوسط التونسية على الفصل بين ارائي الشخصية وبين المسار التحريري الذي تتوخاه الوسط من أجل التأسيس لاعلام واعي وراقي في بلدنا العزيز تونس , وهو مايعني أن نقده اللاذع لي لايفسد ابدا للود والأخوة قضية , طالما أنه هدف الى النصح والبيان في قضايا ذات منزع فكري وسياسي بالأساس . أزعجتني ربما بعض كلماته التي تمنيت فيها على الأستاذ بوعلي عدم تشخيص الأزمة التونسية , اذ أنني على يقين بأن الاشكال السياسي والحقوقي في تونس ذي علاقة بنخبة كاملة البعض منها يوجد داخل السلطة والبعض الاخر يضع أقدامه بمرونة أو ثبات في الصف المعارض , وهو مايعني أن تحميل المسؤولية في كل مايقع على الصعيد الحقوقي والسياسي للرئيس بن علي هو ضرب من ضروب مجانبة ومجافاة الحقيقة . ان الأزمة التونسية في موضوعاتها السياسية ورواسبها الحقوقية الثقيلة تعد في تقديري أزمة مشتركة بين من يضع رجليه في السلطة وبين من يرفض النضال بمبدئية من أجل حقوق وطنية وانسانية كاملة للجميع , وهو مايعني أن اعفاء الوسط المعارض من مسؤوليات الاقصاء والاستئصال يعد ضربا من ضروب الوهم والخيال . لقد كتبت في مرات عدة وفي اطار مراجعة تقييمية شاملة لاداء حركة النهضة التونسية وكثير من الحركات الاسلامية المشابهة بأن ثمة موضوعات أو قضايا لابد أن ينظر اليه بكثير من الاتزان بعيدا عن الرغبة في تصفية الحسابات أو تحويل الصراع السياسي بين الأحزاب والمجموعات الى استهداف لأعلى هرم السلطة , وهو ماجعلني أختار وعن قناعة راسخة وبعد تفكير استمر لسنوات موقف الاحترام الأدبي والمعنوي لأعلى مؤسسة سيادية وهي مؤسسة رئاسة الجمهورية . لاشك بأننا أمام تجربة بشرية تسعى الى النماء والتطوير والى ضبط أمن البلاد والعباد وسط تحديات أمنية اقليمية ودولية كبيرة , ولاشك ان الاخلالات الحقوقية والسياسية موجودة وهي كثيرة وهي محل تغطيتنا المستمرة على منبر صحيفة الوسط التونسية والعديد من المنابر الاعلامية العربية والدولية , غير أننا عزمنا منذ فترة طويلة على تجاوز الفرجوية ومنطق التفكير بالنيابة عنا وعن الاخرين من قبل بعض الزعامات الحزبية التي تتنعم باقاماتها المريحة في كبريات العواصمالغربية في حين يقبع البعض من شباب تونس ورجالاتها في السجون والمعتقلات من جراء مامارسه بعضها من منطق الشحن والتحريض . واذا كان هذا لايعفي السلطة اطلاقا من مسؤولية احترام حقوق الانسان وترسيخ الحريات وعدم التردد في الدفع بقاطرة الاصلاح , فان الطرف الاخر بالمقابل وهو المعارضة ليس معفيا من تجاوز ماوصفته بالحلول التقليدية التي تستند الى تصعيد الأزمة والقاء مالذ وطاب من الخطابات والتصريحات التي لن تزيد الا من تعميق حالة الانقسام السياسي والاجتماعي وهو مانراه ماثلا اليوم في تطورات الأزمة الكينية أو أزمات بلدان افريقية وعربية أخرى- لبنان والعراق والسودان كأمثلة - . لقد اخترت مع أصدقاء شرفاء ومناضلين لفظ الوسط كلافتة فكرية وسياسية قبل حوالي سنتين من اجل لفت النظر الى منطق سياسي وفكري جديد لابد ان يسود أوساطنا الوطنية , وهو مايعني أنني امتلكت شخصيا من الشجاعة - وبفضل من الله - ماخولني الجهر بالكثير من المواقف التي يخفيها البعض داخل قمقمه الحزبي مخافة سطوة القيادة أو تهيبا من الخطاب الشعبوي الذي يمارسه البعض من القادة الذين لاهم لهم الا الزحف باتجاه هرم السلطة حتى ولو كان ذلك على ظهور من أثخنتهم الجراح والام سنوات من الجمر . في تواضع جم لم يحد كاتب هذه الرؤية وعبر مئات المقالات والتقارير والتحليلات عن التوسط في النهج أو الرغبة في ملامسة المشهد الوطني بكثير من الصدق والموضوعية , غير أن مصلحة الوطن ومقتضيات العمل السياسي الهادئ والبحث عن المساحات الجامعة والمشتركة بين ابناء الوطن الواحد ..., كل ذلك جعلني أختار وعن قناعة الاقتراب كثيرا من المعارضة كما الاقتراب الصادق من وجوه الاعتدال والاصلاح والخير والبناء داخل السلطة . وحينئذ فان ماكتبته ليس خروجا عن الصف المعارض أو تشويشا عليه او رغبة في التشكيك في مواقف كثير من مناضليه الصادقين , وانما هو أيضا بحث عن الحقيقة ومواطن الخير لدى الطرف الاخر وهو السلطة التي حاول البعض من المعارضين وضعها في مواضع السخرية والاتهام غير اللائقين بمن ينشد التطوير والاصلاح على الصعيد الوطني . ان حل الأزمة في بعدها الحقوقي والسياسي تونسيا لن يكون صناعة معارضة خالصة بل انه سيمر حتما عبر هياكل الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة القوية وعلى رأسها المؤسسة الرئاسية والمؤسسة الأمنية اللتان يستهين بهما البعض متناسيا دورهما التاريخي في صناعة الحدث وضبط الايقاع السياسي في أهم مفاصل تاريخ تونس الحديثة . من هذا المنطلق اخترنا وعن قناعة اعادة النظر في تجربتنا السياسية السابقة ليس تنكرا للشهداء أو السجناء او المنفيين أو المناضلين في صفوف المعارضة الوطنية الشريفة بل من منطلق التاسيس لتجربة جديدة تهدف الى نزع فتيل الأزمة وتطويق تداعياتها من خلال التاسيس لصفحة علاقات طبيعية وتعاونية بين مختلف مكونات الطيف السياسي سواء تواجدوا داخل السلطة أو داخل الصف المعارض , وهو مايعني أن اذابة الجليد وكسر الجمود وربط الجسور والعلاقات بين الضفتين من اجل مصلحة تونس وشعبها سيكون واحدة من مهماتنا الصعبة التي امل أن يفهمها كل من انتقدنا أو سينتقدنا في القادم من الأيام . وأخيرا الشكر والتقدير للأخ العزيز والصادق محمد البشير بوعلي والى كل من اختار أسلوب الحوار الهادف بعيدا عن منطق التخوين والاتهام . كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 21 جانفي 2008