اعتادت البلاد التونسية أن تشهد حركية هامة في نهاية الأسبوع الأول من شهر نوفمبر ليبدو الأمر و كأنه إشارة الانطلاق للسنة السياسية الجديدة يفتتحها الرئيس التونسي بن علي بخطاب يقيم فيه أداء الحكومة و المجتمع بين الماضي والحاضر و يفتح بعض الزوايا عن التوجهات و الخطط المستقبلية . و كما جرت العادة لا بد أن يسبق هذا الخطاب "البرنامج" نبا العفو عن عدد كبير من السجناء و التصديق باسترداد حقوق لآخرين والتخفيف من الأحكام الصادرة على عدد مشابه . وهو حدث بلا شك يدخل السرور على عدد من العائلات التونسية لا نملك إلا الإشادة به و التعبير عن مشاطرتنا هذه العائلات مشاعر الاستبشار و الفرح.. لا نستطيع أن نقول أن الخطاب الرئاسي كان دائما تكرارا للمعاني القديمة بدليل أنه لا زال ينتظره التونسيون بمختلف مواقفهم السياسية عساه يعبر عن مبادرات جديدة تستجيب لتطلعاتهم و تتفق مع رؤاهم ، كما أن الحكومة و الجماعة المتنفذة فيها لا زالت بطبيعة الحال ترى أن هذا الخطاب يجب أن يتضمن ثناء على نشاطاتها و تهليلا لخياراتها السياسية و إشارات واضحة تستقوي بها على خصومها . كان بودي أن أعلق على نبأ الإفراج على عدة عشرات من إخواننا المساجين و تخفيف الحكم على عدد آخر منهم على أنه حدث سياسي يمكن أن يشكل محطة جديدة نحو الانفراج و المصالحة الوطنية لكن إصرار الخطاب الرسمي على تجريد هذا لإجراء من كل معنى سياسي و اعتباره إجراء روتينيا جرت العادة أن يتخذ في المناسبات الوطنية الكبرى ، ثم التجارب المتكررة التي أصبحت لنا مع القرارات الرئاسية المشابهة تجعلني أشعر أن الكتابة في هذا الاتجاه قد لا تضيف شيئا .. بيد أن ذلك لا يمنعني من الإشادة ببعض الأصدقاء الذين تناولوا الموضوع بما يستحقه في نظري من شرح وتعليق دون الانزلاق إلى أسلوب الهجاء و التنفيس الذي لا أظنه يأتي بما نريد ، أذكر من بينهم الأخوين مرسل الكسيبي و عبد الرحمان الحامدي الذين عبرا بوضوح عما يخالج صدري من مرارة لأن حرص الدوائر الرسمية على خيار الاحتقان و المحاصرة و التعسف لم يتدحرج قيد أنملة رغم وضع الإحراج الكبير الذين تعيش فيه على المستويات المحلية والعربية والدولية نتيجة الضغوط التي تمارسها عليها أطراف المعارضة وهي تدافع عن حقوقها وتنتصر لمناضليها. و إن كان الأخوان الحامدي و الكسيبي قد عبرا بمقالين لهما عما يمكن أن أعلق به على نبأ الإفراج عن جزء من المساجين الكرام فإن حديث المهندس حمادي الجبالي لقناة الحوار- بمناسبة فقرة أعدتها على هامش الاحتفال بذكرى السابع من نوفمبر- قد أفقدني الرغبة تماما في التعقيب على خطاب الرئيس التونسي بالمناسبة ,رغم ما جاء فيه من فقرات مهمة تتناول المكاسب التي تحققت و التي لا أملك إلا تثمينها و الاستزادة منها و السياسات القديمة التي يتم التستر عليها بأجمل الشعارات و أحلى العبارات ولكن حصيلتها على الأرض هي تواصل سياسة إطلاق أيدي البوليس لتفعل بالمواطنين و المواطنات ما يحلوا لها من إهانة و تنكيل ومحاصرة و إذلال وهي تظن أنها بذلك تنتصر لخيارات الحكومة و تعمل من أجل ضمان أمن البلاد واستقرارها . لقد تحدث المناضل حمادي الجبالي عن الحرية و لا شيء غير الحرية وكان واضحا أنه يشعر بالاختناق و المحاصرة و يحمل آثار العدوان و الملاحقة بعد أن تواصلت معه ممارسات التضييق و الهمجية و صارت قدره ، حيث وجد و أينما ذهب ، وتجاوزت هذه الممارسات الدنيئة شخصه لتنال من أفراد عائلته بمناسبة حفل زواج ابنته . فالرجل منا يضحي بنفسه في سبيل المبادئ التي يؤمن بها لكنه سيحس بمرارة أكبر إن تجاوزت التضحيات شخصه لتصل إلى أهل بيته و أحبابه ، و بالتالي فليس من المبالغة وصف ما درجت عليه أجهزة البوليس من ممارسات بالهمجية التي لا تليق بأجهزة رسمية تستمد سلطتها من الدولة و المجتمع . وحتى بالسادية إذا عرفنا أن هذه الممارسات تتواصل بنفس الحدة منذ حوالي عقدين . و بالطائفية لأنها قد تؤدي إلى تنامي شعور الشرائح المستهدفة بهذه السياسة إلى عدم الانتماء للمجتمع الذي تعيش فيه و لولا أن هذه الممارسات قد تعدت الإسلاميين لتشمل كل المعارضين الحقيقيين لصار من الجائز الحديث عن خطة مشبوهة لخلق الطائفية في تونس . و من ذلك ما يتعرض له الدكتور المناضل المنصف المرزوقي من محاولة النيل من معنوياته و تشويه صورته و التقليل من شأنه وإرغامه على الهجرة من جديد ،وكلها ممارسات همجية من شأنها أن تقلل من أهمية الإنجازات الاقتصادية التي يتوسع خطاب الرئيس في وصفها و تعدادها ، إلا أن يكون من أهداف الخطاب إقناعنا بأن هذه الممارسات الهمجية التي تقوم بها أجهزة الدولة واستمرار الصحف الصفراء في تناول بعض المواطنين بما يشوه صورتهم و يهتك أعراضهم و يوجه إليهم أعظم الإساءات هي شرط لتحقيق تلك المكاسب و عندها يحق لنا أن نعبر عن رفضنا لمثل هذه المكاسب التي تتحقق على حساب كرامة المواطنين و أعراضهم لأن الكرامة عندنا لا زالت أغلى من الخبز...و البشر لا زال عندنا أغلى من الحجر... 2 المفارقة بين الخطاب و الممارسة جاء في الخطاب الرئاسي في معرض حديثة عن الخيارات الكبرى لنظام السابع من نوفمبر ما يلي :" و عملنا من خلال تلك الإصلاحات و السياسات و البرامج على استبعاد كل أسباب الفرقة و الإقصاء و التهميش لتحصين مجتمعنا ضد التطرف و العنف حتى يبقى مثلما كان طوال تاريخه المجيد مجتمع التسامح و التفتح، مجتمعا أصيل الثقافة، راسخا في هويته العربية الإسلامية بقيمها الفضلى ، قيم الاعتدال و الوسطية و الاجتهاد . ..." فأي معنى للاستبعاد كل أسباب الفرقة يبقى ؟ ، ونحن نعيش في تونس منذ قرابة عقدين أجواء الفرقة الحقيقية لأن طائفة من الناس استحوذت على السلطة تريد أن تفرض آراءها على الجميع من أسلوب القطرة قطرة في إرساء المجتمع الديمقراطي إلى قراءة خاصة لتعاليم الدين الإسلامي تنفرد بها دون المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ؟؟؟ و أي معنى لاستبعاد الإقصاء و التهميش يبقى ؟, ونحن نعاين منذ عشريتين كيف تتفنن تلك الطائفة في إقصاء خصومها من الإسلاميين عن كل المنابر الإعلامية و المنظمات الاجتماعية و الأحزاب السياسية معتبرة ذلك خيارا للدولة التونسية و خطوطا حمراء ستعرض كل من يتجاوزها إلى فقدان ما تبقي له من الحقوق الإنسانية, وما يحصل لهيئة 18 أكتوبر و حزب المؤتمر من أجل الجمهورية و الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان و المجلس الوطني للحريات و حزب العمال الشيوعي التونسي خير دليل ... و أي معنى لقيم التسامح و الاعتدال و التفتح يبقى ؟ و الناس يرون كيف يقوم بعض أعوان الدولة بجر بعض النسوة المتحجبات من شعورهن في اتجاه المراكز لإجبارهن على الالتزام بما لا يردن الالتزام به من فرض لباس معين عليهن .ناهيك عن مختلف الانتهاكات الأخرى التي تنال الرجال و النساء بدون حساب وما حصل لأم زياد و سهام بن سدرين و محمد عبو و سعيدة العكرمي و سليم بو خذير ومئات من أمثالهم يبقى بدون تعليق أي معنى يبقى لنجاح سياسة تحصين المجتمع ضد التطرف و العنف ؟ و المتهمون بأعمال إرهابية من التونسيين ينتشرون في كل بقاع العالم ,حتى لا تكاد محاكمة لهؤلاء تخلو من عناصر تونسية وكل هؤلاء تربوا في محاضن نظام السابع من نوفمبر بعد أن أعلن القضاء على نشاط حركة النهضة ، و عدد التونسيين في غوانتانامو لا يعلم به إلا الله . و ما زاد عن ذلك من العناصر التي التحقت بالمقاومة العراقية -و منهم الذي اتهم بقتل الصحفية أطوار بهجت- لا أعتقد أنه يشكل دعما لسياسة البلاد و لكنه البرهان على فشل هذه السياسة التي لا شك أنها أكبر منتج لأنصار الإرهاب و التطرف و العنف .. و إن كان واضحا عجز هذه السياسة في منع عملية جربة الشهيرة و هي العملية التي لا يقف وراءها إلا بضعة أنفار كما بين التحقيق ،فهل كان بوسعها أن تحقق الأمن و الاستقرار لتونس عندما كان آلاف من أنصار حركة النهضة يبحثون لهم عن ملاجئ للفرار بدينهم و الجبهة الغربية لبلادهم تشتعل حربا أهلية و السلاح في متناول أيديهم ؟؟ .. و في الأخير لنتخيل شعور التونسيين وهم يتابعون مثل ذلك الخطاب الممتلئ اعتزازا وفخرا بإنجازات البلاد حقيقة وخيالا وليس في بلادهم حقا هذا القدر من الهمجية و الاعتداءات و الانتهاكات و التهميش التشريد و الإقصاء ألا يكون ذلك أفضل للبلاد.. و أهلها.. و حكامها ؟؟؟ *