قد يكون بعض ما سيأتي في هذا المقال يفتقر الى استكمال الأدلة لكن لا بأس من كتابته باعتبار الحياة قد علمتنا أن ما يبدو خيالا في مرحلة معينة قد يصبح في مرحلة لاحقة حقيقة و واقعا . فقد كشفت مسالة الحجاب من خلال تحولها إلى ملف وطني يحتاج إلى حملة تشارك فيها مؤسسات الدولة جميعها ومعركة يجب على الجميع خوضها و الانتصار فيها أن المسألة أبعد من مجرد حجاب انتشر بين التونسيات بصورة لافتة للنظر وأنه الشجرة التي تغطي الغابة ، فالقوم قد انتهوا من دراسة ملفاتهم الكبرى ويبدو أنهم مستعجلون في وضعها موضع التنفيذ قبل أن يحدث ما يجعل المهمة أكثر صعوبة أو يحول دون تنفيذها مطلقا . المهمة هي فرض قراءة معينة للدين تستند لمعايير الحداثة كما يفهمونها و تحرص على إنجازها جماعات متنفذة في السلطة تتكون من خليط من اليسار الانتهازي الذي فقد من زمان الإيمان بقدرته على التأثير على المجتمع من خارج أجهزة الدولة وهو اليوم يتستر بنصرة قيم الحداثة و العقلانية و فريق من العلمانيين المتطرفين الذي يعتنقون النسخة الفرنسية من اللائكية ويمثلون امتدادا لمشروع بورقيبة الذي كان مقتنعا بتفوق المفاهيم الغربية والثقافة الفرنسية أساسا على التعاليم الإسلامية ويعبر عنها دائما بمصطلح الدولة العصرية التي" يجاهد" من أجل إرسائها ، وللتذكر فإن اللائكية الفرنسية التي تحولت بشهادة الكثير من المفكرين الكبار مثل محمد أركون إلى مفاهيم قريبة من الدين و الهوية وأن هذه اللائكية تعطي الحق للدولة في التدخل في شؤون الدين وضبط حدود تدخله في حياة المجتمع و لا تعطي للدين في المقابل أي حق في المشاركة في صنع القرار من أي نوع كان إلا داخل أسوار الكنيسة وما إليها من أديرة و مؤسسات تربوية وثقافية محدودة التأثير ... : يحتاج المرء الى معلومات استخباراتية لمعرفة هذه الدواعي بدقة لكن ذلك ليس في متناولنا اليوم لذلك لا مندوحة لنا من محاولة استقراء الأوضاع واستنطاق الوقائع على الأصعدة الدولية والإقليمية والمحلية . أ على المستوى الدولي ، هناك تواصل الحرب التي أعلنتها الولاياتالمتحدة و حلفاؤها على الإرهاب وقد ظن الكثير أن الأمر قد يحسم في زمن وجيز ولكن المؤشرات كلها تفيد أن هذه الحرب ستتواصل لآجال غير معلومة وفي الأثناء هناك ما يؤكد تنامي الظاهرة الإسلامية شرقا و غربا وأن ما اصطلح عليه البعض بالإسلام السياسي يشتد عوده ويتحول إلى مؤسسات سياسية و اجتماعية وثقافية و إعلامية يتعاظم تأثيرها في أوساط النخب بعد أن كانت في الماضي مجرد تيار يجد مؤيديه بين الشباب المدرسي والجامعي ويمتد إلى عامة الناس وخصوصا المهمشين منهم وكل هذه الأخبار ليست سارة بالنسبة "للمحافظين الجدد" في تونس الذين كانوا يأملون في تقلص الظاهرة الإسلامية وظنوا أن فرصتهم بعد أحداث 11سبتمبر قد حانت للبروز على المستوى الدولي على أنهم أصحاب الوصفة السحرية للقضاء على ما يسمونه بالتطرف الديني وأن الزبائن سيأتون إليهم من كل حدب وصوب لشراء" منتوجهم الأصيل" لكن خيبت آمالهم التطورات اللاحقة في دول الجوار والعراق و أفغانستان و لبنان وفلسطين ... ب على المستوى الإقليمي ، اتسمت السنوات القليلة الماضية باتجاه واضح نحو المصالحة الوطنية في كل من المغرب وموريتانيا والجزائر و أخيرا ليبيا وكان يجب أن تتأثر تونس بهذا المسار التصالحي فتُخلي معتقلاتها من مساجين الرأي وتتوقف عن سياسة المحاصرة المقيتة و تفتح حدودها أمام المغتربين وتلغي المناشير اللادستورية التي تنتهك الحريات العامة و الفردية ولو بشكل تدريجي بيد أن هذه الجماعات رأت في هذا المسار الإقليمي ما يهدد مصالحها و يضعف نفوذها فاختارت طريق الهروب إلى الأمام وافتعلت معركة الحجاب واستنفرت أجهزة الدولة لها " ويمكرون الله والله خير الماكرين " ج على المستوى المحلي ، أدت ثورة المعلومات وانتشار الفضائيات إلى نتائج غير متوقعة . و نذكر أن هذه الجماعات قد شجعت انتشارها ظنا منها أنها ستساهم في إضعاف الالتزام الديني من خلال متابعة القنوات الإباحية كما أن بعضها سيروج عن البلاد صورة قوامها التفتح على الغرب بما فيه من اتجاهات التمر د على الطبيعة و التقاليد وانخراط في ثقافة العولمة بما فيها من شبكة الانترنيت و ما إليها من استتباعات تقنية و أمنية لكن الأعراض الجانبية إن صح التعبير كانت غير مرحب بها وتتمثل في انفتاح البلاد على ما تبثه الفضائيات العربية من برامج دعوية وأخلاقية وتربوية أدت الى فشل سياسة تجفيف منابع التدين وانبعاث صحوة إسلامية جديدة غير مسيسة ولكن انتشارها الواسع في صفوف التونسيين كان بالقدر الذي أقض مضاجع "المحافظين الجدد " وأملى عليهم التعجيل بالإعلان عن أهدافهم ووضع مخططاتهم موضع التنفيذ. يضاف إلى ذلك ما يشاع في البلاد عن إصابة الرئيس بمرض عضال و بداية إرهاصات معركة الخلافة وما إليها من مظاهر التنافس ونسج المؤامرات وبروز المحاور المتصارعة التي يريد كل منها أن يضمن لمؤيديه المواقع القادرة على المشاركة في اتخاذ القرار المتعلق بمستقبل البلاد أو انفراد به . و يبدو أن " المحافظين الجدد " في تونس اليوم يشعرون بأنهم في أوج قوتهم وأنهم قادرون على تحقيق أهدافهم جملة و تفصيلا و أن الوقت ليس في صالحهم . 2 الأهداف المفترضة : ففي الوقت الذي تتواصل فيه عملية سيطرة أفراد العائلات المالكة ومن يتعاقد معهم على اقتصاد البلاد من خلال تنفيذ إجراءات الخوصصة التي قاربت الانتهاء وتمويل المشاريع الجديدة ووضع اليد على المؤسسات الناحجه في كل القطاعات بمباركة من "المحافظين الجدد " ، يركز هؤلاء في المقابل على خوض معركتهم التي لم تحسم بعد ضد الحركة الإسلامية بكل مظاهرها.. أما سلاحهم الجديد فهو قراءة جديدة للنصوص الشرعية وقع تجميع أدلتها من مختلف المذاهب واستندوا فيها إلى بعض الفتاوى الشاذة و الآراء الغريبة والدراسات الاستشراقية ويحاولون اليوم فرضها في تونس على أساس كونها صناعة محلية لها الحق في احتكار أسواق البلاد وكل ماعداها هو دخيل منبوذ أو غزو مرفوض باسم الدفاع عن الأمة التونسية و خصوصيتها الحضارية ، وهي بطبيعة الحال ثقافة غريبة عن التونسيين الذين يمثل الانفتاح على الغرب و الشرق أحد سماتهم الرئيسية واليوم يراد لهم الانفتاح فقط في اتجاه واحد وقبل ذلك أريد لهم أن يتقوقعوا مذهبيا في حدود المدرسة المالكية لأن البعض ظن أن ذلك سيكون مفيدا عند رفض الاجتهادات الأخرى التي تصدر غالبا في المشرق الإسلامي ، فالتناقض بين دعوتين متعارضتين الانفتاح والانغلاق هو السمة الأولى في فكر" المحافظين الجدد" وعنوانا واضحا لإرادة التلفيق والتزويق التي يسعون لفرضها مستفيدين من تواجدهم في مختلف أجهزة الدولة أما المفارقة بين الشعارات و الواقع فهي السمة الثانية التي نجحوا للأسف في جعلها سياسة عامة للدولة في العهد الجديد . والأكيد أن معركة الحجاب اليوم هي الأولى في مسلسل المعارك التي يراد خوضها لتفصيل البلاد على مقاس التحالف العلماني المتطرف، فقد بدأت الاشتباكات في حقل آخر يتصل بموضوع المواريث بالدعوة إلى تنقيح مجلة الأحوال الشخصية بما يساوي بين الذكور و الإناث في الإرث وهي المجلة التي طالما تغنى هؤلاء بقدسيتها والاعتراض على تحوير بعض فصولها ما دام المتحدثون عن ذلك من الإسلاميين. أما المعركة الثانية التي تلوح مقدماتها فهي تدور حول الصيام و فرضيته على المسلمين في تونس بالدعوة التي تقوم بها بعض الأسماء المستعارة * والتي تتناغم مع نفس القراءة الحداثوية التي شرحنا بعض دعائمها ... والبقية ستأتي في شكل دعوات الإقرار بحقوق الشاذين جنسيا و منع آذان الفجر باعتباره مزعجا للملحدين و مستفزا لمشاعرهم الرقيقة ... 3 رهانات المواجهة لمواجهة هذه المخططات المشبوهة التي تهدد نسيج المجتمع التونسي المتناغم مذهبيا و عرقيا و معرفيا وتشكل خطرا على مستقبله وانتمائه لأمة الإسلام والعروبة نراهن على الآتي : أ الشعب التونسي : الذي برهن في كل مناسبة أنه متعلق بانتمائه الحضاري و متشبث بدينه وهويته إلى درجة أن ذلك صار من الشعارات التي يرفعها المظللون لينالوا من تراثه وتقاليده و يتاجروا بمستقبله في زمن المفارقة بين الشعارات و الواقع ... ب العلماء والقائمون على شؤون الدين ، وقد لوحظ أن مؤسسة الإفتاء و المجلس الإسلامي الأعلى ومختلف المعنيين بشؤون الدين لم ينخرطوا بعد بما يرضي "المحافظين الجدد" في المعركة لذلك اضطروا أن ينزلوا إلى الميدان بأنفسهم . هذه القوى نذكرها بمسئوليتها التاريخية وواجبها في ترجيح كفة العقل والدين على نزغات الشيطان و وسوسة المغانم ودواعي الجبن والوهن . ج مؤسسة الرئاسة ، إذا نجحت في تحجيم تأثير"المحافظين الجدد" واطلعت بمسئوليتها القومية والتاريخية لأنها في النهاية ستتحمل وزر هذه المواقف و وزر من استند إليها إلى يوم القيامة و ليس بعيدا أن تتسبب عاجلا في فوضى شبيهة بما عرفته البلاد سنة 1984م بمناسبة رفع أسعار الخبز وأدى ذلك إلى احتجاجات واسعة غير مؤطرة كادت تصل حد الانفلات الأمني العام لولا أن تدارك الرئيس السابق الأمر وسارع إلى التراجع عن قرار رفع الأسعار الذي أيده في البداية تحت تأثير بطانة السوء ، وانحلت بذلك الأزمة لكن آثارها على سمعة مؤسسة الرئاسة كانت وخيمة. 4 البلاد ليست مؤهلة اليوم للحسم في هذه القضايا إن الدولة التونسية اليوم ليست مؤهلة للحسم في قضايا ذات علاقة بهوية المجتمع وانتمائه الحضاري وفرض اجتهاد ديني معين عليه لغياب المؤسسة التشريعية المنتخبة انتخابا ديمقراطيا لا لبس فيه ، حتى إن سلمنا بمنهج الرئيس بن علي في بناء الديمقراطية بالتراكم التدريجي ، لأن هذا التراكم لم بصل بعد إلى منتهاه ليسمح بانتخاب البرلمان الذي يحق له أن يقرر في مثل هذه القضايا التي تهم حاضر التونسيين ومستقبلهم ، ومن المفروض أن يتواصل الحوار والتدافع بين مختلف القراءات والاتجاهات حتى تكتمل المؤسسات الديمقراطية .وعندها لكل حدث حديث . *يراجع في ذلك مقال د.أبو خولة المنشور على صحيفة الوسط التونسية يوم 15 أكتوبر 2006 وصلة المقال المذكور :