: لم يكن زهير مخلوف ولن يكون أول واخر مناضل حقوقي وسياسي يقاد الى سجن المرناقية في "بلد الفرح الدائم" .., فأخبار الاعتقالات والتعذيب والاختطاف والتجنيد الانتقامي ,والاعتداء بالعنف والترغيب والترهيب تملأ أخبار "الجنة" منذ سنة 1989 تاريخ تزوير نتائج أول انتخابات على عهد السابع من نوفمبر... ذاك هو حال الوطن الذي أخرجنا منه قسرا مطلع سنة 1992 بعد انخراطنا القوي في مناشط المعارضة الطلابية رغبة منا في رؤية الحريات والكرامة يخيمان على أرض وسماء تونس.. تولى الرئيس بن علي الحكم في أواخر سنة 1987 وعمره انذاك 51 سنة , واليوم وبعد مضي 22 سنة على تاريخ توليه الحكم أصبح عمر الرجل 73 سنة لم نرى فيها على رأسه شعرة بياض واحدة !!! تم تزييف التاريخ ابتداء من شعر الرئيس وصولا الى حقيقة المنجز السياسي والحقوقي والاجتماعي بالبلاد التونسية .. تم تزوير الأرقام ورشوة بعض ضيوف تونس من كبار السياسيين من أجل الحديث عن معجزة اقتصادية ستتكشف حقيقتها حين نعرف يوما ما حقيقة المديونية الخارجية للبلاد التونسية ... في "الجنة" لابد أن نقول جميعا بأن الوضع على أحسن مايرام وأنه ليس بالامكان أحسن مما كان ! , والا فالويل والثبور لمن رأى بأم عينيه عكس ذلك ..!!! هل نحن مارقون عن الدين وكفرة بالذات الالهية لو أننا طالبنا بانتخابات حرة ونزيهة وبالتداول على السلطة وبضرورة تقيد رئيس الدولة بتعهداته التي قطعها أمام شعبه صبيحة يوم السابع من نوفمبر 1987 ..؟! قيل لنا يومها لاظلم بعد اليوم .., فصدقنا , ودافعت أنا شخصيا عن البيان وعن روح ماجاء فيه أيام كان بعض الأصدقاء في اليسار التونسي يتهمون أنصار التيار الاسلامي الوطني بالانخراط فيما سموه انذاك ب"زواج المتعة" مع السلطة.. لكن ماهي الا سنة ونيف حتى جاءت الانتخابات التشريعية والرئاسية بتاريخ 2 أفريل من سنة 1989 ورأينا بأم أعيننا كيف زيفت الانتخابات وفتحت أبواب الظلم من يومها على مصراعيها .. في سنة 1990 تم التجنيد القسري والانتقامي لحوالي 600 طالب من مناضلي الاتحاد العام التونسي للطلبة وتوفي بعض هؤلاء تيها في الصحراء ووجدت جثة أحد شهدائهم الأبرار ممزقة أشلاء بعد أن أكل من لحمها الذئاب ..! وفي السنة الموالية انطلقت الحملة الشرسة والانتقامية ضد أعضاء ومناصري حركة النهضة التونسية , لتشهد البلاد أكبر حملة اعتقالات وتهجير قسري منذ قرن أو أكثر... بعد سنوات ارتفعت أصوات مناضلين أشاوس داخل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان وحزب العمال الشيوعي والتجمع الاشتراكي التقدمي وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين , فلم يكن نصيبهم يومها أحسن من نصيب معتقلي حزب النهضة ومهجريهم .. جوبه هؤلاء بالاعتقالات والمحاكمات والتعنيف من أجل أن يخيم صمت القبور على كامل التراب الوطني ... استعاد المجتمع المدني في تونس ثقته في النفس منذ أواخر التسعينات من القرن المنصرم وتشكلت النواتات الأولى للتنسيق المشترك بين المعارضة في أجواء اتسمت بالجرأة العالية وروح المبادرة , الا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر شكلت قارب نجاة للسلطة بعد أن عاشت حالة ارتباك غير مسبوقة مع مطلع الألفية الجديدة .. اغتنمت السلطة فرصتها "الذهبية" وشرعت في اعتقالات ومحاكمات سياسية جديدة على أرضية محاربتها المغشوشة للارهاب وذلك في اطار مراهنتها على جلب تعاطف الادارة الأمريكية وبعض الأطراف الغربية المحافظة.. كان رد المعارضة التونسية أكثر من ذكي ومباغت , اذ أتاحت القمة العالمية لمجتمع المعلومات المنعقدة بتونس فرصة تاريخية أمام أبرز التيارات لافراز تحالف مشترك على أرضية المطالبة بالحرية : اجتماعا وتنظما واستصدارا للعفو التشريعي العام .. أدركت السلطة بعد استيفاء الرئيس بن علي لدوراته الأربع وتنقيح الدستور على خلفية الاستفتاء الشعبي أنها دخلت في منعرج زوال الشرعية , ومن ثمة لم يبق أمامها الا استنفاذ كل الوسائل القمعية من أجل البقاء في الحكم أو التفكير في بديل مستقبلي عن الرئيس الحالي ... أفلحت "براقش" هذه المرة في انقاذ الموقف بحيلة دستورية أقصت الشابي وبن جعفر من الترشح , بعد أن أسقطت في السنوات الماضية "الترشح الشرفي" لكل من المرزوقي ومحمد مواعدة .., لكنها نسيت أنها وضعت قيدا على الرئيس الحالي حين نصت دستوريا على منع من هو فوق سن الخامسة والسبعين من الترشح لأعلى منصب سياسي بالدولة ... تبدو السلطة حينئذ أمام عقدة أخلاقية وسياسية ودستورية , لذلك يبدو العمل جاريا على قدم وساق من أجل تهيئة أحد المقربين لمنصب الرئاسيات قبل حلول سنة 2014 ... لكن يبقى السؤال مطروحا فيما اذا سيسمح الرئيس التونسي الحالي باقالته أو ابعاده من قبل أحد مقربيه ولو كان من ذوي الفضل والقربى .. الواضح أن السيدة ليلى الطرابلسي حرم الرئيس التونسي تسجل حضورها ومنذ أسابيع وبقوة في الحملة الانتخابية وفي وسائل الاعلام الرسمية حتى كادت تحتل المادة الاخبارية كليا نيابة عن الرئيس نفسه ..., وهو مايعني أن الأمور انتقلت من طور التفكير الى طور التنفيذ ..., هذا ولانغفل طبعا عن اشارة السيد زهير مظفر في جريدة الحياة لهذا اليوم 21 أكتوبر 2009 الى عدم خلو التجمع الدستوري من الشخصيات القادرة على الاضطلاع بمسؤوليات أعلى هرم السلطة , وهو مايعني أن الاشكال الدستوري والسياسي المستقبلي بدأ يحرج النخبة الحاكمة ... لقد اختارت حركة التجديد التوقيت السياسي المناسب في المنازلة الجدية برغم اختلال الموازين , ادراكا منها لأهمية تسجيل دور لها في الحراك المعارض , اذ تؤكد جميع الأطراف من داخل السلطة وخارجها على أن السنوات القليلة القادمة ستكون حاسمة جدا في مستقبل السلطة والمعارضة على حد سواء... السلطة تبدو حينئذ مرتبكة جدا , وان كانت توحي ظاهريا عبر وسائل اعلامها الرسمية والتابعة بعكس ذلك , ومن أجل ذلك باتت لغة العصا هي المستحكمة , فضمن هذا الاطار تتنزل عملية اعتقال الزميل والصديق زهير مخلوف وتعنيف حمة الهمامي ومداهمة بيته ومنع الأستاذة النصراوي من السفر ومحاصرة كل أعضاء منظمة حرية وانصاف , وترهيب صديقنا الأستاذ خالد الكريشي وعمليات التضييق الخانق على عناصر حركة التجديد ومنع السيد أحمد ابراهيم من طباعة وتوزيع بيانه الانتخابي ..دون أن نغفل عن حراك على الضفة الأخرى حيث يتكثف نشاط المعارضة التونسية بالداخل والخارج يقينا من الكل بأن الوطن على أبواب منعرج خطير وهام ... الوطن يبدو في الظرف الراهن من زاوية حقوقية سياسية سجنا كبيرا يحاصر فيه النشطاء السياسيون والحقوقيون ورجال الاعلام ويهددون يوميا , وقد دقت أحداث الحوض المنجمي بقفصة ناقوس خطر ثاني تجاه الجبهة الاجتماعية التي كثيرا ماتحدثت السلطة عن تحصينها من باب كثرة المنجزات والمكتسبات ..غير أن موضوعات الفساد والمحسوبية والرشوة وغياب العدالة الاجتماعية وتضخم نسب العاطلين ستكون هي الأخرى ملفا عسيرا تصعب معالجته في ظل تخلف تونس الراهن على صعيد التنمية السياسية , فهذه الموضوعات تبقى رهينة فتح ملف الاصلاح السياسي من بابه الواسع والمسؤول , وهو مايبدو في حكم المعطل الراهن أمام عقدة الانتقال السياسي السلمي في أعلى منصب سياسي بالدولة التونسية... وبلاشك فان قدرة المعارضة في السنوات القليلة القادمة على توظيف وسائل الاعلام ومخاطبة الرأي العام بعيدا عن الاحتكار الرسمي أو ماشابهه , ستكون كفيلة بتعجيل التغيير وتنضيجه , وهو مايجعل السلطة مدركة لأهمية احتكار وسائل الاعلام ومحاصرة الاعلام الحر في ظل وضع يعيش كثيرا من الاحتقان.. وبالمناسبة وفي ختام مقالي هذا أتوجه بالتحية مجددا لزميلي زهير مخلوف على روح الشجاعة والتحدي الوطني الذان مارس بهما تغطيته للوضع الحقوقي التونسي في ملفات التعذيب وجرائمه وهو ماجعله يشرف مسيرة اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي التقدمي بطرق أبواب السجن موسما بنياشين حرية الاعلام وجرأته , التي يعتصم من أجلها اليوم زملاؤنا المناضلون في راديو 6 , ويخوض من أجل ملحمتها الكبرى زملاء اخرون في النقابة الوطنية للصحفيين مسيرة شاقة زرعت السلطة طريقها بمسامير وألغام تتراوح بين الترغيب والترهيب .. -كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 21 أكتوبر 2009 *كاتب واعلامي تونسي مقيم بألمانيا : [email protected]