يؤرقني أن يستمرّ التشابك بين الإسلاميين والنظام، ويزعجني أن يتواصل إهدار الوقت والمال والجهد والطاقات في هذه المعركة أو الخصومة دون أن يكون هناك مستفيد. بل هناك ضرر لحق المجتمع والوطن وحرم البلاد من الاستفادة الإيجابية من آلاف الطاقات : (مربون وأطباء ومهندسون وجامعيون وعمال وإطارات...) وأشاع مناخ الخوف والحقد والعطالة والتوجس والريبة. ورغم مرور حوالي العقدين من الزمن منذ بداية الحملة، لا يزال منطق التشابك هو السائد رغم ما أصاب جسم الحركة الإسلامية من إنهاك وإجهاد. ويغذّي هذا المنطق بساطة الإجراءات المتخذة من طرف السلطة وتراخيها المقصود في إطلاق سراح المساجين وطيّ صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة تقوم على منطق الإدماج في الحياة العامة في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية. كما يغذّي منطق التشابك حرص بعض الأطراف السياسية المنافسة من المعارضة على أن تبقى الخصومة قائمة بين السلطة والحركة الإسلامية حتى لا يستفيد الإسلاميون من المناخ الجديد ويحسنوا استثمار ما تراكم من مكاسب ويبقوا مركبا وأداة لتحقيق مآرب حزبية وفئوية- كما كانوا دائما- وذلك لما تتمتع به تلك الأطراف من ضعف ووهن وعدم قدرة ذاتية على مناجزة السلطة. ولقدرتها على استدراج فعاليات الحركة الإسلامية (المغفّلة) لمنطقها وسلوكها الاحتجاجي والانفعالي، رغم إدراكها -أي المعارضة- لطبيعة الأذى وحجمه الذي أصاب الإسلاميين "وقد كانت تلك الأطراف بالأمس مساهمة فيه ومعينة عليه" وحاجة هؤلاء أي الإسلاميين لزمن طويل ولمناخ استقرار يساعدهم على التعافي وتضميد الجراح وإصلاح البناء والاندماج التدريجي في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية بالبلاد. ولو حاولنا أن نحلّل ونفهم الأسباب التي تؤخّر حصول مصالحة وطنية، وهل المصالحة ممكنة ومطلوبة لقلنا : 1- إنّ المحنة التي تعرض إليها الإسلاميون قد تركت آثارا نفسية عميقة تحتاج إلى وقت وجهد نفسي حتى تزول آثارها. وتحتاج إلى وقت حتى تتعافى الأبدان من الآثار السلبية للسجون وتستعيد عافيتها وتلقى العناية الصحية الضرورية- وهو أمر لم يحدث إلاّ قليلا- وللسلطان دور كبير فيه لأنّ ذلك من مسؤولياته وواجباته، كما للجمعيات والمنظمات الحقوقية والتطوعية كما لأصحاب المسؤولية في حركة النهضة عبء كبير. وتحتاج إلى وقت حتى تتعافى النفوس وتستعيد توازنها. ولعلّ الجروح النفسية أشدّ وأعظم أثرا على الأفراد وهي لذلك تتطلّب جهدا كبيرا من السلطة قوامها الإرادة المسؤولة والصادقة في تجاوز الآثار ومعالجتها بالتطمين والإدماج الاجتماعي والتعويض المعنوي والمادي واستبعاد منطق التشابك. كما تتطلب جهدا عظيما من الإسلاميين يبدأ بتحميل أنفسهم جزءا من المسؤولية فيما جرى من تشابك وما ترتب عليه من عقوبة أو محنة لأنّ ذلك من حسن التقويم من ناحية، وفيه بعض عزاء من ناحية أخرى من شأنه أن يقلل من الآثار النفسية ويدفع منطق الثأر والانتقام لو توفرت القدرة، ويشيع مفهوم الاحتساب إلى الله لأنّ صاحب الرسالة أو القضية يعتبر أنّ المحن ضرورية وطبيعية في المسيرة. وبقدر ما يكون جريئا وصادقا وموضوعيا في تحديد كسبه وكسب يده فيها (أي مسؤوليته) بقدر ما يكون قادرا على استيعابها وتجاوز آثارها والانطلاق لحسن استثمارها في المستقبل نهوضا بالرسالة ومواصلة للمسيرة وتقييما للتجربة وتأكيدا للدور وإصرارا على الحق في التعبير والمشاركة يوجّهه في المرحلة الجديدة الموضوعية والاعتدال في توصيف الواقع الخاص والعام. 2- على السلطة أن تدرك أنّ الحركة الإسلامية معطى موضوعي في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية للبلاد وأنّ سلوك المواجهة ومنطق الإقصاء والإلغاء أو التحقير لا يلغيها. نعم قد يضعفها ويهمّشها ويضعف تأثيرها ويعيق امتدادها، ولكن لا يمكن بأية حال أن يقضي عليها. بل إنّ العملية في حد ذاتها تضييع للوقت والجهد وللطاقات من جانب السلطة كما من جانب فعاليات الحركة الإسلامية. وهي بعبارة أخرى نوع من اللغو أو الإصرار على الضلال أي الخطأ... وخير من ذلك أن يتعاطى مع الظاهرة على أنّها واقع وتطور طبيعي في الحياة العامة للبلاد ويمكن أن تكون عامل إثراء حقيقي إذا توفر شرطان. - واحد من جانب السلطة وهو أن تعتبر الحركة الإسلامية معطى موضوعيا ومنافسا فكريا في الجانب الثقافي والسياسي والبرامجي وتتعامل معه على ذلك بمنطق التشريك وإفساح المجال للعمل ضمن القانون وتستبعد معه ومع غيره منطق الإقصاء والمحاصرة والمتابعة الأمنية البليدة. فتغدو الحركة الإسلامية شريكا سياسيا وثقافيا يوحد إمكانياته وثرائه وفعالياته ونضاليته للعطاء والبناء والإصلاح فيسلم المجتمع من إهدار الفرص والإمكانيات في التدافع والتشابك الجالبين للهزات والمعيقين للتنمية. - وآخر من جانب فعاليات الحركة الإسلامية وهو أن يعتبروا ما جرى في الماضي مرحلة غير طبيعية وقد ولّت وانتهت بقطع النظر عن المسؤولية التي هي موزعة بين الطرفين بأقدار متفاوتة. وأنّ المرحلة الجديدة تقتضي قدرا كبيرا من المسؤولية السياسية تقوم على احترام السلطة واحترام الفرقاء والاقتناع بمنطق التدافع السلمي القائم على الحوار والتواصل. ويجدر بالإسلاميين أن يقوموا بمراجعات جريئة يكون فيها تقييم للماضي بحلوه ومرّه ويكون ذلك بأقدار من العلنية توفّر للدارسين وللأجيال خلاصات تعين على التجاوز والتطوير والترشيد إذ أنّ الحركة الإسلامية ليست مملوكة لفئة أو حزب أو تنظيم أو أشخاص بل هي مرحلة وتجربة في تاريخ البلاد والشعب كما غيرها من الأحزاب والتنظيمات والجمعيات والزعامات. وكلّ تجربة أو مرحلة يعتريها النقص والخطأ. وقد يحرمها انغلاقها وتكتمها من الاهتداء للعورات والتفاعل مع الواقع تأثرا وتأثيرا. وما أحوج الإسلاميين لأن يكونوا مثالا في المسؤولية والصراحة والصدق والجرأة إذا كان القصد "إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت" "وما أبرّئ نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء". إنّ ممّا يعين على دفع منطق التشابك حسن الإدراك للواقع الموضوعي وطنيّا وإقليميا ودوليا، وضرورة الانتباه إلى أنّ أعداء الأمّة لا يريدون لبلدنا وغيره من بلاد المغرب أو العروبة والإسلام أو الجنوب عامّة (إفريقيا وآسيا) أن تتمّ فيه يقظة وعي وإرادة نهوض ووعي بالتحديات واستقرار وسلام تساعد جميعا على حسن الانتقال للديمقراطية وحسن استغلال الإمكانيات المادية والبشرية تعود بالنفع على هذه الأوطان والشعوب قبل غيرها. وهذا يقتضي مسؤولية من الحاكم والمحكوم ورغبة عامة في دفع كلّ أسباب التشابك والتوتر والتنافر والتدابر ويقظة دائمة تفسد على الأعداء تدبيرهم ومكرهم. ولنا فيما حدث في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان وكثير من بلدان آسيا وإفريقيا شاهد ودليل. *أحد الوجوه القيادية السابقة في حركة النهضة ومن مؤسسي حركة الاتجاه الإسلامي سنة 1981.