بدأت بعض الصحف وصفحات الشبكة الإجتماعية الفايسبوك تتحدّث عن أنّ أُولى قرارات السيد علي العريّض، ستكون مراجعة قائمة الإطارات الأمنية التي أحالها فرحات الراجحي على التقاعد... مدّعيا تطهير الوزارة من بؤر الفساد آمرا بإيحاء من الصحفي إلياس الغربي في أحد برامجه على قناة نسمة آنذاك بتتبّعهم ومراقبتهم، والحال أنّ عمليّة إبعادهم كانت متسرّعة، دون تروٍّ ولا تعقّل ولا تفحّص لملفاتهم الإدارية. صحيح أنّ جزءا من قياديي وزارة الداخليّة عملوا ضمن المنظومة الأمنية الفاسدة للرئيس السابق، وساهموا بصفة مباشرة في دكترته، وفي تغوّله، وفي قمع الشعب وسلب حرّيته، وحرمانه من أبسط حقوقه، ومتابعته، وملاحقته، والتنصّت عليه، والإفتراء عليه، والكيد له، وإلصاق التهم المفتعلة والتشهير به، منظومة أمنيّة تشوب نصوصها القانونية والترتيبة والتشريعية الضبابية، تكرّس مبدأ الطاعة العمياء الصماّء، ولا تحمّل مسؤولية الفعل الأمني إلى أيّ كان، إذ لا وجود لمرجعيّة للخطط والوظائف ولمراكز العمل، تتحدّد فيها مهام كلّ وحدة أمنية، ووظائفها، والأنشطة التي عليها القيام بها، وكيفية القيام بها ضمن دليل إجراءات مفصّل، وإنّي أُرجع سبب عدم التوصّل إلى قتلة الشهداء الحقيقيين، إلى غياب مثل هذا الدليل ومثل هذه المرجعيات، وهي منظومة غير منظّمة فقيرة للكفايات القيادية، وفقيرة لثقافة المؤسسة الأمنية الجمهورية، من أخلاقيات عمل وقيم مهنية، قويّها يأكل ضعيفها، عانت الكثير من الجهويّة والولاءات والمحسوبية، وارتبطت برؤوس الأموال، وأصحاب الجاه، تبيعهم أسرار التونسيين والتونسيات، وتهديهم خباياهم وخفاياهم حتّى يعزّزون شبكاتهم العلائقية، ويتحكّمون بخيوطها، ويحرّكون أطرافها مثلما شاءوا. منظومة أمنيّة خيطت على قياس دكتاتوريّة بن علي، يصعب أن تجد على رأسها من لم يمسسه هوسه، وجنون عظمته، ودهاؤه، ونهمه، وطغيانه، وكذبه، ونفاقه، ورغم ذلك فهناك جزء من قياديي قوّات الأمن الداخلي وطنيون، وهبوا أنفسهم فداء للعمل ولا شيء غير العمل، وسيذكرهم التاريخ يوما وسأشهد أنا وغيري من الذين يقدّرون في الرجل علمه، ووفاءه، وصدقه، وإخلاصه، وشدّته على نفسه وعلى غيره، بأنّهم كانوا أكفّاء مقتدرين زرعوا فينا حب الوطن ولا شيء غير الوطن. وقد أصاب فرحات الراجحي إلى حدّ ما في ما أسماه بعملية التنظيف حتّى أن أحد زملائي من رؤساء مناطق الأمن الوطني الحاليين وهو من خرّيجي دورتي بصلامبو سنة 1992 قال لي بالحرف الواحد "يخرّجنا الكلّ رؤساء مناطق ومديري أقاليم ورؤساء إدارات ومديرين ومديرين عامين وشوف تنظافش" وقد أسانده الرأي خاصّة في ظلّ تراشق عصابات الأمن الوطني بالتهم والسباب والشتم، ونشر غسيلهم الأسود على مرأى ومسمع ملايين المنخرطين في الأنترنات، وجميعهم يدّعي الشرف والنزاهة والنظافة. وحتّى لا يتسرّع السيد وزير الداخلية في الحكومة الشرعية في إرجاع المظلومين من قائمة المحالين على التقاعد الوجوبي، فإنّني أدعوه بكلّ لطف، في التثبّب مليّا في ملفّ كلّ إطار، وفي تكوينه وشهاداته، وفي أملاكه، وفي حساباته البنكية، وفي المناصب التي شغلها، والإستئناس بشهادات من كانوا يتعاملون معهم من داخل المنظومة الأمنية، وخصوصا من خارجها. كما أرجوه عدم التسرّع في مزيد تطهير وزارة الداخلية، وأدعوه كذلك بكلّ لطف، في التثبّت مليّا في ملفّات الإطارات والأعوان، الذين عذّبوا ونكّلوا وانتهكوا حقوق الإنسان وأمروا بهتك شرف التونسيين والتونسيات وبتضييق الخناق عليهم والتشهير بهم كذبا وافتراء وبهتانا، والذين تواطؤوا في الماضي القريب أو الماضي البعيد، مع الرئيس السابق وأصهاره المقرّبين أو المبعدين، وفي ملفات الإطارات والأعوان الذين وهبوا أنفسهم لخدمة رجال المال والجاه والأعمال فمكّنوهم بمقابل من أسرار أمن الدولة ومن الإستعلام لفائدتهم، ومن التستّر على جرائمهم المالية والأخلاقية، وتمتّعوا على إثر كلّ هذا من الحصول على إمتيازات معنوية ووظيفية وترقيات ونفوذ مقيت، وأخرى عينية ونقدية، فبنوا القصور وملكوا الشقق والأراضي وبعثوا المشاريع واستثروا ثراءا فاحشا يعلم القاصي الداني مأتاه ومصدره. وإنّني إذ اكتب هذا، وأنا من بين 42 "فاسدٍ" الذي إدّعى فرحات الراجحي بأنّهم كذلك، وبكلّ هذه الجرأة، فلأنّني كلّي ثقة في شرعيّة المرحلة وفي شرعيّة الحكومة وفي شرعية وزير الداخلية، لكن كذلك والأهم بالنسبة لي، في شرعيّة الأمنيين الشرفاء النزهاء الذين يعملون في صمت، والذين ضاقت صدورهم بالمحسوبية، وطفح كيلهم من جرّاء الجهوية، وتمّ إقصاؤهم وإبعادهم إلى التفقدية، من أجل مبدإ، ومن أجل قيمة، ومن أجل حقّ أُريد به حق، وليس من أجل حقّ أُريد به باطل...