مرسل الكسيبي*-صحف-الوسط التونسية: رحل الزعيم بورقيبة عن دنيا التونسيين وقد ترك وراءه جمهورية عليلة بأسقام الاستبداد , حين رفض التداول على السلطة ومأسسة الدولة والانتقال الديمقراطي بعد ثلاثة عقود من اعلان الجمهورية واشهار الاستقلال ... كانت الظروف مهيأة تونسيا ومنذ نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي لاعتماد نموذج ديمقراطي يقوم على المأسسة واحترام القانون , كما الالتزام بقواعد الفصل التام بين السلطات , غير أن الشخصية الكليانية للرئيس وشمولية الحزب الحاكم عجلتا بافراز منظومة سياسية مغلقة قامت على حماية مصالحها بالاعتماد على الجهاز الأمني , وهو مانقل السلطة في لحظة تاريخية من الطبقة السياسية الى الطبقة الأمنية في ظل تموقع تاريخي للرئيس الحالي ضمن هياكل الدولة الأمنية على اثر انتفاضة الخبز ... ألغى بن علي بعد سنوات قليلة من توليه السلطة الهياكل السياسية التقليدية للدولة أو دجنها , وحطم بنية المجتمع المدني وخلق الهياكل الديكورية الموازية وسعى الى تعويض صنمية بورقيبة بصنمية أسطورية موازية... كان الحصاد ذعرا وخوفا وقمعا ونفاقا تفشى بين مفاصل المجتمع , الا أن المجتمع الأهلي أفرز مضادات حيوية استطاعت التصدي لزحف الشمولية على مساحات واسعة من الدولة ... كانت الجمعيات الحقوقية المستقلة , والأحزاب السياسية المناضلة وبعض الهياكل النقابية الصامدة , رصيدا يضاف الى فعل بطولي لسجناء الرأي والمهجرين الذين عروا أمام العالم زيف ماتروجه الالة الاعلامية الحاكمة من صورة مزيفة عن جمهورية لم يبقي منها الأخير الا هيكلها العظمي ..! تبدو الجمهورية في عرف الرئيس الحالي , خمس دورات متتالية, تضاف اليها نداءات ذعر ومناشدة تريد تربيعه على العرش الى حين تحول البلد الى ضيعة حقيقية على فوهة بركان ... هكذا هي حقيقة الأوضاع اليوم بالبلاد التونسية , فقد سبق وأن حلمنا بالاصلاح في الذكرى العشرين لازاحة سلفه بورقيبة , وقد توهم البعض امكانات الاصلاح من جديد بعد التجديد له في ولاية خامسة نهاية سنة 2009 م , ولم تمض سنة واحدة على التجديد له , حتى صفع رجال الاعلام بالسجون , والمحامين بالاعتداءات على السلامة الجسدية , بل انه تمادى في اشهار توسع عائلته في التهام ممتلكات الدولة وأصبح الأمر على أعييننا تلفزيا في كل ليلة , فأسماء كاكتوس وأورانج وموزاييك أف أم , وبريكوراما وتونزيانا وشمس اف ام وجوهرة اف ام ومشتقات الرموز الحضارية للبلاد باتت أصلا تجاريا لاستدرار عطف العوام والسذج ... هكذا هي نهايات الجمهورية التي تعهد بحمايتها في خطابه ليوم 25 جويلية 2010 , انها التطبيق العملي لماأسميته بنظرية الحكم بالأضداد , أي الكذب عوض الصدق , والملكية المقنعة عوض الجمهورية , والشمولية المطلقة بدل المأسسة , والدوس على الدستور وتحويله الى خرقة بالية بدل التقيد بروحه العامة أوبعض فصوله على رغم التلاعب بها في أكثر من مرة... "جمهورية" يمتلك فيها بعض الأصهار سيارات الهامر واليخوت دون لوحات تعريفية , واخرون يسطون على وسائل الاعلام ليحولوها الى صحف برافدا أو كاباريه على الهواء أو تباتيل وابتهالات بحمد الطغيان , ولاننسى أن نتحدث عن التجارة التي احتكروها وطلبوا من السلطات الليبية اغلاق معبر راس جدير لتجويع البسطاء والمساكين في بنقردان , ثم سرعان ماأرسلوا الوزراء الى طرابلس الغرب متبتلين بعد أن لقنهم أهالي بن قردان درسا لايقبل النسيان... هي الجمهورية , تهب جنسيتها للمسبحين بحمد فخامته , وتهدد أهالي بن قردان بسحبها بعد أن انتفضوا للخبز والكرامة , فقد قيل لهم قبل أيام بأنهم ليسوا تونسيين وعليهم بالرحيل الى الجماهيرية الليبية ...! "جمهورية" يسكن فيها بعض مواطنينا على الحدود الجزائرية في الأكواخ مع الدواب ليمزقهم الفقر والجوع والمرض والانقطاع عن التمدرس , في حين يتمتع البعض من الأصهار بثروة شخصية سنوية لاتقل عن مائة وخمسين مليون يورو , ثم تراهم يفضحون الفقير والمسكين على شاشات التلفزيون ببعض المساعدات الكاريكاتورية , مقابل مساومتهم على التمجيد العلني لفخامته بعد دوسه على الكرامة ... جمهورية تستولي على العمل الخيري وتؤممه , وتجعل من مساعدة الفقير والمحتاج والمعوق حكرا على سيدة العرش أو من ازرها من كبار ملاكي الضيعة ... واذا كان مشروعك رابحا ويدر عليك ثروة , فسيأتيك بعض أصهار سيادته طالبين اقتسام خيرات الجمهورية حتى ولو كانت مطعما بني بالاعتماد على مشقة ثلاثين أو أربعين سنة من حصاد ربيع العمر ... هكذا هي الجمهورية التي يوهمنا في خطاباته الزائفة بالحفاظ عليها والذود عنها والدفاع عن مبادئها , ولسان زوجته يقول ومن فوق منبر الرئاسة , غمزا ولمزا بأنها هي الحاكم الفعلي لضيعة أو مملكة قرطاج ... والخلاصة , ودون الخوض فيما صار اليه وضع مؤسسات الدولة وممتلكاتها العامة , فان سياسة غض البصر عن الفساد والقهر والاستبداد , طمعا في استحياء سيادته نهاية ربيع العمر ووضع البلاد على سكة مسار الاصلاح كما حصل في بعض دول الجوار ..., هذه السياسة لم تزد الطرف الاخر في النهاية الا جشعا وطمعا ورغبة في مزيد بسط اليد على كل شبر من مساحات الحرية أو الثروة العامة ... لم يبقي الرئيس الحالي من الجمهورية الا ذكراها , أو عودة الذاكرة بنا الى زعيم الاستقلال الأول حين غادر الدنيا بخفي حنين برغم جمعه في تاريخ الوطن بين المغانم والمغارم والمظالم..., وبعد ذلك وقبله مازالت السجون تعج والى اليوم بالالاف من أصحاب الرأي والمواقف , دون أن نتحدث عن زعماء السياسة الذين التهبت لصمودهم القضبان , أو قادة الكلمة والصحافة الذين كشفوا الوجه الحقيقي لعدو الاعلام ... تلك هي محصلة 23 سنة من حكم ديكتاتور خدع التونسيين بمعسول الكلام حين خطب الناس بأنه منقذ أمين من براثن شيخوخة ومرض الرئيس السابق , فاذا به يضعنا اليوم وبعد 23 سنة أمام نفس الحقيقة , يضاف اليها أخطبوط عائلي التهم الأخضر واليابس وحول الجمهورية الى ضيعة شاسعة تمتد فوق فوهة بركان ينتظر الانفجار في أجل غير معلوم ... هي الجمهورية , حين تختطف فيحولها المخادعون الى كنتونات اقتصادية واعلامية وثروة شخصية تقتطع من عرق الجماهير , وهي الجمهورية حين تعود رغم أنف مختطفيها حين ينتفض التونسيون يوما ما لاستعادة ماسلبه هؤلاء من أحلام الجمهورية , بعد أن حدثوا النفس بصعود روحها , لكن ان هي الا أضغاث أحلام , فروحها لازالت تسري في قفصة والرقاب وفريانة وسيدي بوزيد وبن قردان ... , وتلك الأيام نداولها بين الناس... كتبه مرسل الكسيبي* بتاريخ 23 أوت 2010 - 13 رمضان 1431 ه . *كاتب واعلامي تونسي