أخطر من مجلس الشعب الجديد ذلك المجلس الدائم الذي تشكل على غير موعد ولا يعلم إلا الله وحده متى تنتهي دورته.. فقد شكل الحزب الوطني ذلك المجلس من طبقة أكاديمية وقانونية وسياسية وإعلامية، لكنها طبقة أهانت نفسها كثيراً، وضيعت تاريخها، ليس لأنها ارتضت الانضمام لحزب سياسي مثل الحزب الوطني، فتلك قناعات يتحملها صاحبها، ولكنها ارتضت أن تشارك بكل إمكاناتها العلمية وخبراتها في إدارة عملية سياسية مشبعة بالمخالفات الأخلاقية والفشل الذريع في مجالات عديدة، داخلياً وخارجياً. نعم هناك إنجازات مهمة، وهناك أداء محترم لبعض منتسبي تلك الإدارة، لكن المحصلة النهائية مزيد من معاناة المواطن، والتخلف عن ركب الحياة في مجالات عديدة، والحال أبلغ من المقال. ولا أستطيع أن أصدق كيف يلقي أساتذة جامعات كبار، ومستشارون لهم تاريخ طويل، وسياسيون بأنفسهم ضمن جوقة كبيرة وعريضة من مختلف الثقافات والطبقات والمؤهلات، جوقة تضم على رأس قائمتها هؤلاء المحترمين، وفي مؤخرتها أو وسطها قطيع شرس من البلطجية... والجميع يخدِّم على هدف واحد هو اكتساح الحزب الوطني بأي ثمن للانتخابات البرلمانية الأخيرة، مقابل إسقاط المعارضة.. وكلهم يسعى لذلك بطريقته الخاصة، فالأستاذ الجامعي الكبير بعباراته وتعبيراته المنمقة جداً، والمستشار بقوالبه القانونية الجاهزة، والإعلامي بتدبيج «المانشيتات» العريضة، والبلطجي بفض «المولد» بالقوة، حتى وإن لزم القتل لكي يقوم الموظفون «المحترمون» باللازم داخل اللجان.. وفي الأخير يحصد السياسي كل ذلك مُخرجاً لسانه للوطن كله. إن ثروة أكاديمية وقانونية وسياسية كبرى يتم إهدارها.. وقتاً وجهداً وأموالاً في سبيل التمكين لحزب من مواصلة كبته على أنفاس الشعب، وكان بإمكان الحزب الوطني استخدام هذه الثروة في إصلاح الحياة السياسية في مصر، وإصلاح سياساته، والعمل على حل مشكلات الدولة المصرية، وكان بإمكان هذه الثروة - أو الطبقة - أن تبدع - ولن تعجز عن ذلك - عقداً اجتماعياً تشارك فيه كل القوى والمنظمات على أرض مصر، تتضافر من خلاله كل الجهود لإنقاذ البلاد ووضعها في المكانة التي تليق بها، بدلاً من مخططات التربيط والتآمر، وإهدار الجهود والأموال والأوقات لضرب القوى السياسية وتفتيتها وعرقلتها، والدخول معها في حرب شعواء، واستفراغ هذه الطبقة كل ما تملك من فكر وتخطيط في الكيد للخصم السياسي، وكيفية إقصائه وحرمان مصر من بقية كفاءات الشعب المصري. إن سياسات الحزب الوطني التي تقوم على قاعدة: «أنا ومن بعدي الطوفان» أهدرت على مصر ثروة بشرية ضخمة من الكفاءات والخبرات في كل المجالات، وذلك عبر سياسة الإقصاء والاعتقالات، وشل الحياة السياسية، وبالتبعية شل الحياة العامة. ولهذا نقول بكل وضوح: إن الحزب الوطني لو امتلك قبة البرلمان كاملة لعقود قادمة، ولو شكل الحكومات المتتالية إلى ما لا نهاية من التاريخ، وهو على هذه الحال فلن تتجه البلاد على يديه إلا إلى الوراء؛ لأن الجهد والوقت والطاقات منصرفة للتشبث بالحكم بأي ثمن، وإقصاء الآخرين بأي طريقة.. إنها أشبه بحرب أهلية سلمية صامتة ونتائجها لن تكون أقل من الحروب الأهلية الأخرى. وهناك ملاحظة جديرة بالتوقف، وهي أن «جماعة الإخوان المسلمين» منذ نشأتها كانت مصدراً لارتزاق واسع من قبل أفراد وجماعات وأحزاب وحكومات، ظلت تقتات وتحقق منافع ونفوذاً ووجوداً في الحكم على دماء وحرية وحاضر هذه الجماعة، فمنذ شعر الغرب والصهاينة بخطر «الإخوان» على مشروعهم الاستعماري في المنطقة، والحكومات الدكتاتورية لا تكف عن استخدامهم فزَّاعة للغرب والصهاينة، وإيصال رسائل سياسية متواصلة، مفادها أن الديمقراطية الحقيقية لن تأتي بغير الإسلاميين للحكم، وقد بلغت قناعة الغرب الذروة بذلك في الآونة الأخيرة، فتركوا الحكومات لتشكل الحياة السياسية والبرلمانات وفق ما تريد وبما يحقق حصار الإسلاميين سياسياً. وكم من معونات صرفت من الغرب، وكم من مواقف مخزية اتخذت لدعم وتثبيت تلك الحكومات في كراسيها قطعاً للطريق على البديل المخيف (الإخوان)، وبدورها وحتى «تحْبك» الديكور الديمقراطي تقوم الحكومات برصِّ مجموعة من القوى والأحزاب العلمانية على مقاعد البرلمان لمداراة عمليات تزوير الانتخابات، وهنا تكون الفرصة سانحة لتقتات تلك القوى الهامشية على حساب الإسلاميين؛ إذ ترضى عنهم السلطة لأنهم يمثلون ضرورة لتسويق المصداقية وديمقراطية الحكم، وإلا فقل لي بربك: ما الذي تغير في حزب الوفد غير رئيسه الجديد؟ وما الذي تغير في حزب التجمع غير وجوه قياداته التي ازدادت تجاعيدها بفعل الزمن، وازداد انصراف الناس عنه، إيذاناً بانقطاع خلفه السياسي، ما الذي تغير عند هؤلاء حتى يحصلوا على تلك المقاعد التي حصلوا عليها؟! إنها الفرصة الذهبية لضخ مزيد من الأكسجين في جثث تلك الأحزاب، عساها تصدر حراكاً ملموساً في الشارع، فتغطي على حركة الإسلاميين النشطة، ولكن دون جدوى، وفي الوقت نفسه، فإن شلة الإعلام القابعة في مؤسسات عدة لها نصيبها بالطبع من الاقتيات، ولكل مجتهد من الكعكة نصيب. ترى.. إلى أين يسير هؤلاء بالوطن؟! .................................................. (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية