من المعلوم أن السبب الرئيسي لعدم تكليف السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة المستقيل بتشكيل الحكومة ورئاستها مرة ثانية من طرف حركة النهضة أن السيد الجبالي قدم مجموعة من الشروط لحركته للقبول بالمهمة. هذه الشروط تتلخص في تحييد وزارات السيادة والانفتاح على كل الحساسيات السياسية في مشاورات تشكيل الحكومة ومنح الأولوية للتكنوقراط خاصة في الوزارات «التقنية» وحل روابط حماية الثورة.
رفض مطلق
هذه الشروط المقدمة من السيد الجبالي رفضتها حركة النهضة مما استدعى اللجوء الى مجلس الشورى لانتخاب شخصية جديدة يقع تكليفها بمهمة رئاسة الحكومة ليفوز السيد نور الدين البحيري بثقة مجلس الشورى ثم تتغير الامور تحت ضغط حليفي النهضة في الترويكا المؤتمر والتكتل لصالح السيد علي العريض ليحل محل البحيري.
وبدا أن حركة النهضة لن تلتفت مجرد الالتفات الى شروط حمادي الجبالي لتختار مسارا آخر عند التفاوض حول تشكيل الحكومة الجديدة إلا أن مجريات الأمور منذ شروع رئيس الحكومة المكلف علي العريض في السعي الى تشكيل الحكومة تشير الى عكس ذلك فالعريض انفتح على كل الحساسيات السياسية حتى التي هي على طرفي نقيض مع حركة النهضة مثل حركة نداء تونس والجبهة الشعبية التي اعتبرت تكليف علي العريض برئاسة الحكومة الجديدة اعادة انتاج للفشل الذي وقعت فيه الحكومة الاولى برئاسة الجبالي حسب رأيها طبعا.
كما التقى السيد محمد جمور القيادي في حزب الديمقراطيين الموحد والحزب الجمهوري ممثلا في مية الجريبي وأحمد نجيب الشابي والتقى قيادات من المسار الاجتماعي الديمقراطي ضمت الجنيدي عبد الجواد وسمير بالطيب اضافة الى احزاب أخرى قريبة أو بعيدة من حركة النهضة.
وفي سياق أبعد من لقاءاته مع مختلف الأحزاب السياسية فإن رئيس الحكومة المكلف علي العريض أكد أنه يسعى الى تشكيل «حكومة لكل التونسيين» وهذا كلام صريح منه الى انه سينفتح في حكومته الجديدة على كل الحساسيات السياسية بالبلاد وكلمة «كل التونسيين» تغني عن أي تعليق فالرجل أقصى «الاقصاء» في تشكيلته الحكومية الجديدة وهي رسالة طمأنة أعقبها فعل مطمئن منه الى كل الفاعلين في المشهد السياسي التونسي الى أنه منفتح على الجميع ان ماديا بضمهم الى حكومته او معنويا بأخذ آرائهم ومقترحاتهم بعين الاعتبار.
حل «عقدة» وزارات السيادة
بعد الانفتاح على كل الأحزاب بلا استثناء قررت حركة النهضة على لسان رئيسها الشيخ الغنوشي التنازل عن وزارات السيادة الثلاث وهي العدل والداخلية والخارجية إن لمستقلين كما هو الحال في الداخلية والعدل او لأحزاب أخرى في وزارة الخارجية التي عرضت بإلحاح على أحمد نجيب الشابي كما تم تسريب خبر حول امكانية تكليف سليم الفخفاخ من حزب التكتل بتقلد حقيبة هذه الوزارة وهو ما لم ينفه الى حد الآن اي طرف.
قريبا انهاء مشكل رابطات حماية الثورة
أما رابطات حماية الثورة فإن حلها قريب جدا وقد بدت ارهاصاته ودلائله من استقالة رئيسها محمد معالج وزوجته حليمة معالج بل ان هناك حديثا عن امكانية تشكلها في حزب سياسي واذا أضفنا الى ذلك ما يروج من حديث عن امكانية ان يكون بعض المقبوض عليهم في قضية اغتيال بلعيد نشطوا في رابطة حماية الثورة دون ان يعني ذلك ان لها علاقة مباشرة بجريمة الاغتيال فإن احتمال حلها اصبح متناميا أكثر من اي وقت مضى.
المبادرة مقبولة وصاحبها مرفوض
في ظل ما أشرنا اليه آنفا يصبح التساؤل عن سبب رفض شروط حمادي الجبالي للاضطلاع من جديد بمهمة رئاسة الحكومة من حركة النهضة مشروعا جدا فرئيس الحكومة المكلف علي العريض ينفذ ما اشترطه حمادي الجبالي بحذافيره تقريبا فهو يتفاوض مع الجميع ووزارات السيادة تخلت عنها النهضة ورابطات حماية الثورة قريبا جدا تطلق عليها «رصاصة الرحمة» والتكنوقراط سيكون لهم حضور مهم في الحكومة الجديدة فهل يصبح القول ان مبادرة الجبالي مقبولة وصاحبها مرفوض؟
عقاب خفيّ
حين طرح الجبالي مبادرته مساء 6 فيفري الماضي تعالت أصوات الرافضين لها من حركة النهضة وانهالت سهام الاتهامات على الرجل من كل حدب وصوب بأنه منقلب على الشرعية وانه أعطى للمعارضة ما تريد وانه طعن حركة النهضة في ظهرها وانه تجاوز مؤسساتها ولم ينسق مع قياداتها عند تقديمه لمبادرته لذلك فإن احتمال أن تكون حركة النهضة قررت «معاقبته» على تجاوزاته تلك في حقها وذلك طبعا من وجهة نظرها قريب الى التصديق خاصة أن ما نادى به الجبالي في مبادرته هو ما كان يتبناه الشيخ الغنوشي ذاته اذ لا ننسى أنه كان يعتبر الفوز في انتخابات 23 أكتوبر 2011 بنسبة 20٪ مقبولا جدا كما أنه كان يقول في حديثه عن تجربة فشل الاسلاميين في الحكم في الجزائر ان جبهة الانقاذ أخطأت بفوزها بنسبة ساحقة في انتخابات سنة 1991 وقال كلمته الشهيرة «الثلث والثلث كثير» كما أكد رأيه هذا حين أقر بأن تجربة الحكم أضرت بحركة النهضة أكثر مما نفعتها ولكن بما ان حمادي الجبالي لم يستشر ولم ينسق وأخذ قرار طرح مبادرته بصفة فردية فإن معاقبته ضرورية خاصة أن بعض قيادات النهضة ترى أنه اختار الوقت غير المناسب وهذا أضر بمبادرته وبحركته وبحكومته وبالمسار السياسي ككل في البلاد لأنه منح المعارضة ما تريده على طبق من ذهب وفي السياسة لا يحاسب الشخص على نيته بل على نتيجة فعله وقوله.
... وانتصر جناح العريض
من خلال تكليف علي العريض برئاسة الحكومة يبدو ان الجناح الموالي له والمتنفذ في حركة النهضة أراد أن يأخذ بزمام الأمور في الحكومة ايضا خاصة إذا علمنا ان جناح العريض قد عين عديد الشخصيات في مواقع قريبة من حمادي الجبالي في الحكومة بل وفي الوزارة الأولى ذاتها وحاولوا فرض رؤاهم على الجبالي لكنهم فشلوا ولطفي زيتون أفضل مثال على ذلك فإن أخذ زمام الأمور بأيديهم فعليا في رئاسة الحكومة يصبح الحل الأفضل من وجهة نظرهم.