«لم يعد يفصلنا عن موعد 18 أكتوبر اجل انتهاء الإقامة التي بحوزتنا غير أيام معدودة ولو تمسكت السفارة الفرنسية بتونس بموقفها الرافض لمنحنا تأشيرة الدخول إلى فرنسا فإنها ستحرمنا من حيث تدري أو لا تدري من فرصة رؤية والدنا المريض والذي لم نره منذ أكثر من 35 سنة ...» هكذا قالت السيدة جميلة بن عبد السلام قبل أن تنخرط في موجة من البكاء.هدأت من روعها و طلبت منها أن تقص علي حكايتها من ألفها إلى يائها كفكفت دموعها وقالت « والدي محمد كان يعمل على متن عربة مجرورة لكنه لم يكن راضيا عن مستوى عيشه لذلك قرر السفر إلى فرنسا لتحسين دخل العائلة ..كان ذلك سنة 1975 وقد تركني آنذاك في السادسة من عمري وترك والدتي حاملا في الشهر الثالث بشقيقتي سامية ...كان في البداية دائم الاتصال بنا لكن شيئا فشيئا انقطعت عنا أخباره تماما ... ومنذ سنة 75 زارنا والدي مرة واحدة بعد عام من مغادرته ارض الوطن لكن بعد ذلك استقر نهائيا هناك ولم نره منذ ذلك التاريخ وخلال الأشهر الأخيرة عاود الاتصال بنا كان في حالة سيئة كان حزينا كئيبا لقد أعلمنا انه أصيب بمرض السكري وقد اضطر الأطباء هناك إلى بتر ساقيه وهو الآن مقعد في الغربة لقد اشتاق إلينا و اشتقنا إليه ...أرسل لنا تذكرتي سفر واحدة لي والأخرى لشقيقتي كما أرسل لنا المال لنجهز أنفسنا ونعد جوازات السفر ... لقد قال انه يريد أن يرانا قبل أن يموت وتلك هي أمنيته..».فرحة لم تتم«نسينا عذاباتنا التي تجرعناها لسنوات طويلة ...نسينا همومنا لم نحاول أن نبحث له عن أعذار لغيابه عنا .. نسينا الماضي برمته وأردنا أن نفتح معه صفحة جديدة...صفحة تجمع أبا بابنتيه بعد أكثر من ثلاثين سنة من الفراق وانشغلنا في إعداد جوازات السفر واشترينا الملابس الجديدة التي لم ننعم بها طوال حياتنا والفرحة لا تكاد تسعنا... ازداد شوقنا إليه وازدادت رغبتنا في السفر إلى فرنسا للارتماء في أحضانه لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ورياحنا هبت علينا من السفارة الفرنسية بتونس لقد انتقلنا إلى مقرها صحبة قريب لنا وكانت الرغبة تحدونا في ان نحصل على مبتغانا (تأشيرتي السفر) في أسرع وقت وقدمنا أوراقنا... تحدثوا إلي والى شقيقتي لكننا لم نتجاوب معهم لجهلنا لغة فولتير ويبدو أن هذا الجهل لم يرق لهم فتعاملوا معنا بشيء من اللامبالاة وطلبوا منا الرجوع بعد أيام ...» وهنا صمتت محدثتي لتسترد أنفاسها بعد أن خنقتها العبرات ثم أضافت «عاد قريبنا لكنهم اعلموه أن طلب الحصول على التأشيرة تم رفضه أعلمنا بذلك لكننا لم نصدق ما حصل وتساءلنا في سرنا وفي جهرنا ماذا تريد منا السفارة الفرنسية حتى تمنحنا تأشيرة السفر وتسمح لنا برؤية والدنا الغائب عنا منذ عشرات السنين ؟ ماذا سنفعل باللغة الفرنسية ونحن اللتين سنتوجه مباشرة إلى والدنا لنطمئن عليه ويطمئن علينا ونزيل عنه وحشة سنين طويلة ؟ لماذا يحرموننا من رؤية والدنا المريض ؟ لماذا يقفون دون لم شمل عائلتنا ؟ هل يتصورون أننا سنذهب إلى فرنسا للبقاء هناك فانا وشقيقتي متزوجتان وبقاؤنا في فرنسا لن يتجاوز في أقصى الحالات مدة أسبوعين ؟». هل من تدخل ؟أسئلة طرحتها جميلة البالغة من العمر 42 سنة قرأت من خلالها مدى حسرتها و تألمها وحزنها على ما أصابها وقد أسرت لي في خاتمة حديثها بان الأيام تمضي وان السفارة إذا ما تمسكت برفضها منحهما التأشيرة فان أملها وأمل شقيقتها في لقاء أبيهما الذي لا تعرفانه إلا في الصور سيتبخر وربما إلى الأبد وأحسست بفرحة الطفولة في عيني جميلة فرحة ممزوجة بالخوف ومشوبة بالحزن وأدركت أن محدثتي التائقة إلى السفر لا تملك أي جاه أو قدرة لتحقيق رغبتها وتحويل حلمها الذي راودها في طفولتها إلى حقيقة لقد كانت بسيطة في مظهرها ..مؤثرة في كلامها ...لم تطلب المستحيل واستنجدت بنا لتبلغ صوتها إلى المسؤولين في السفارة الفرنسية وتقول لهم إن موعد شهادة الإقامة التي أرسلها لها والدها تنتهي صلاحيتها يوم 18 أكتوبر عساهم يتجاوبن معها وها نحن نفعل كذلك وأملنا أن يصل صوتها إلى من يهمهم الأمر فيتدخلون قبل فوات الأوان ويساهمون في إدخال الفرحة على قلبها وعلى قلب شقيقتها سامية.