تبدو المسألة أكثر من عاجلة. إذ في حلها إنقاذ للصحة العمومية وللأمن القومي أيضا. هذا ما يتفق حوله المهنيون في القطاع الصحي مقتنعين بأن الوضع في المؤسسات الصحية العمومية أصبح كارثيا. تونس(الشروق) في الثالث من شهر ماي الماضي توجه العم محمد متعثرا بسنواته الثمانين الى أحد مستشفيات العاصمة لألم ألم به على مستوى العينين. فحصل على موعد طبي بعد ثمانية أشهر. وحينها لم يجد العم محمد من رد فعل سوى أن يضحك بعمق حتى أن آخر أضراسه المتبقية ليقول «لقد احتقروا سنّي هم يرون في كبار السن عالة على الصحة العمومية فيؤخرون لنا مواعيدنا الطبية ربما يراهنون على موتنا قبل ان نكبدهم اية خسائر على مستوى العلاج». و«كان يقول ذلك بحزن عميق» هكذا روت لنا ابنته الصغرى سلمى الحادثة مؤكدة أن كبار السن أصبحوا يتذمرون من المواعيد الطبية فهي تُعطى بتواريخ بعيدة أولا ثم يتم تأجيلها بتواريخ أخرى أبعد». تذمرات كبار السن في شهر فيفري الماضي وفي المستشفى الجهوي بقفصة أمضى العم حسن شهرين في انتظار إجراء عملية على القلب. والعم حسن يبلغ من العمر 93 سنة وهو في صحة جيدة. ولا يعاني من أي نوع من الامراض المزمنة. حالة صحية جيدة لم تغر الأطباء ربما اذ يبدو ان الطاقم الطبي راهن بدوره على تقدمه في السن وربما استكثروا فيه العلاج وفقا لاحد أبنائه. ذات صباح قيل للعم حسن إنه سيتم نقلك الى مستشفى عبد الرحمان مامي بالعاصمة لاجراء العملية هناك بعد أن تم العثور له على سرير وقيل له بعد ساعتين فقط انه تم الغاء نقله الى العاصمة نظرا الى غياب السرير؟ انتظر أبناء العم حسن أياما أخرى قليلة قبل ان يقرروا نقل والدهم الى إحدى المصحات الخاصة بصفاقس حيث أجرى عمليته في أسرع وقت ممكن وبكلفة 3 آلاف دينار. وعاد اليوم العم حسن الى سالف نشاطه في ضيعته في وضع صحي سليم. ويقتنع ابنه الذي تحدثنا اليه رافضا الكشف عن هويته ان العاملين في القطاع العمومي سواء إطارات طبية او شبه طبية -عن غير قصد- قد يسيئون الى خدمات القطاع العمومي «اذ لا أجد أي مبرر في طريقة التعامل السلبي مع الحالة الصحية لوالدي والمبرر الوحيد والمنطقي الذي انتابني هو مراهنتهم على تقدمه في العمر وان الموت قد يكون أسرع من العلاج الذي ينتظره. هكذا هم يزيدون في اغراق القطاع الصحي العمومي» حسب قوله. اكتظاظ لا تنتهي تذمرات المواطنين عند «الإهمال» ربما غير المتعمد لكبار السن. بل هي تشمل المواعيد الطبية والاكتظاظ ونقص المختصين وكذلك عدم توفر الأدوية وغيرها من السلبيات التي أصبحت تُشوّه الوجهة الصحية العمومية. وتجبر كثيرون على التوجه الى القطاع الخاص رغم نقص الإمكانيات الطبية. بل إن البعض أصبح يخصص ميزانية داخل الاسرة للحالات الطارئة. تقول بسمة وهي ربة بيت إنها تحاول شهريا الادخار من ميزانية الأسرة كي تترك أموالا جانبا توقعا لاي حدث صحي طارئ وتكون الوجهة القطاع الصحي الخاص. «كان اقتراحا مني وقد زكاه زوجي لاحقا وقد كنت في البداية أدخر ما يتبقى من الميزانية وان كان مبلغا قليلا وبعد أن ناقشت الأمر مع زوجي أصبح يمدني ب100 دينار إضافية في ميزانية الاسرة. هكذا نحن أصبحنا ندخر لنضمن خدمات صحية جيدة بدل أن ندخر للسياحة والترفيه. حياة التونسي اصبحت مثل المغامرة يتحسب فيها للمخاطر اكثر مما يحس بالرفاهية» كانت تقول ذلك وهي تداعب شعر ابنتها البالغة من العمر ثلاث سنوات. وبعد صمت قصير تضيف «بعضنا رمى بنفسه على القروض لاقتناء سيارة تقيه شر الخدمات الرديئة للنقل العمومي. واليوم نحن نبحث عن حلول بديلة توفر لنا الخدمات الصحية الجيدة». هجرة الأطباء تذمرات المواطنين لا يستغربها الجانب النقابي. بل إن الأطراف النقابية تصف بدورها الوضع بالكارثي مقتنعة بأن الملف أصبح أكثر من عاجل. يقول عثمان جلولي كاتب عام الجامعة العامة للصحة إن الطرف النقابي ذكّر في أكثر من مرة وآخرها بيان صادر قبل حوالي شهر بأن الوضع الصحي كارثي «لان هناك سياسات عامة تحاول بمقتضاها مختلف الحكومات التونسية رفع اليد شيئا فشيئا على القطاعات الاجتماعية ونحن ضحايا تلك السياسات». كما أعتبر أن ميزانية وزارة الصحة العمومية دون المطلوب بكثير. إذ هي لا تتجاوز ما نسبته 6 بالمئة من ميزانية الدولة وذلك رغم تغير الأسعار في محيط المؤسسة الاستشفائية وكذلك في معاملاتها التجارية. ودعا جلولي الى ضرورة أن تكون ميزانية 2019 ميزانية الانتصار للقطاع الصحي وذلك بالترفيع في ميزانية وزارة الصحة العمومية. وتعاني المستشفيات العمومية وفقا لمحدثنا من عدم خلاص مستحقاتها لدى الصندوق الوطني للتأمين على المرض (المعروف اختصارا بالكنام) والمقدرة وفقا لتقرير المؤشرات المالية لل"كنام" الى غاية جوان 2018 ب386 مليارا. ويقول الجلولي إن المتخلد بالذمة لدى الصندوق كان في حدود 430 مليارا. وقد بدأ الصندوق في استخلاص هذه الديون رويدا رويدا ليصل حجم المتخلدات الى المبلغ المذكور سابقا. كما لفت الجلولي النظر الى النقص الرهيب في الموارد البشرية من أطباء وفنيين سامين وممرضين في الجهات. هذا النقص الرهيب قد يتضاعف خلال السنوات القادمة فهجرة الأطباء وأيضا الاطار شبه الطبي أصبحت من المسائل اللافتة للنظر في المهنة وفقا لاهل القطاع. اذ سبق أن أعلن منير بن يوسف مقني رئيس مجلس عمادة الأطباء أن الزيادة السنوية في عدد الأطباء المرشحين للهجرة بلغت 47 بالمئة. ويرجح أن يكون عدد الأطباء المهاجرين خلال العام الجاري في حدود 630 طبيبا و914 طبيبا خلال سنة 2019 وفي حدود 2700 طبيب خلال 2022 خاصة بعد أن فتحت ألمانيا أبوابها للأطباء التونسيين. الى جانب أزمة الموارد البشرية التي يبدو أنها ستتفاقم خلال السنوات المقبلة لفت كاتب عام جامعة الصحة النظر الى نقص التجيهزات في المستشفيات العمومية «فالقطاع الخاص أصبح يمتلك تجهيزات أفضل» حسب قوله كما أن «آخر مستشفى تم بناؤه كان قبل 28 سنة. وهو مستشفى الحروق البليغة ببن عروس». واعتبر جلولي أن نسبة عدم الرضا عن الخدمات الصحية المعلنة من قبل المعهد الوطني للإحصاء والبالغة 49 بالمئة هي ليست نسبة هينة. بل هي نسبة لافتة للانتباه وكان على السلطة التقاط هذا الأمر ومعالجة الوضع بشكل استعجالي مشيرا بدوره الى أزمة الاكتظاظ في المستشفيات وتأخر المواعيد الطبية وكذلك نقص أطباء الاختصاص الذي لم يعد حكرا على الجهات الداخلية فحسب بل شمل أيضا بعض مستشفيات العاصمة. الجلولي وغيره من أهل المهنة يعتبرون أن القطاع الصحي مربح لكن الحكومات لا تستطيع تغيير واقعه المشوه وتُبقي عليه في هذا الوضع بسبب غياب الإرادة. والجلولي وحده من دعا الى ضرورة الخوض في مسألة الفساد بشكل أوضح. «فالفساد ليس فقط الفساد الصغير. وعون سرق ادوية قيمتها آلاف الدنانير وهو امر مدان المطلوب محاسبته لكن الفساد الأكبر يحصل في المؤسسات المنتجة وعلى مستوى الصفقات وثمنه المليارات وهو فساد أكبر مطلوب من الجميع وفي مقدمتهم الاعلام التصدي له». وقد حاولنا التواصل مع المديرة العامة للصحة العمومية الدكتورة نبيهة بورصالي فلفول حول مجمل التشكيات المطروحة والتذمرات مما اصبح عليه الوضع في القطاع الصحي العمومي الا اننا لم نحصل على أي رد. ويبدو المشهد ملونا في القطاع الصحي العمومي يبدأ بالاكتظاظ ورداءة الخدمة المسداة للمرضى والزوار، وفقا لشهاداتهم، وصولا الى شهادات حول فساد أكبر فيه تجاوزات بالمليارات. ويبدو في المحصلة ان القطاع مربح وانه باستطاعته ان يكون القطاع الأبرز في الاستثمار العمومي شرط توفر الإرادة لدى السلطات لمعالجة الشؤون الكبيرة منها والصغيرة خدمة للإنسان أولا وخدمة للقطاع الصحي ثانيا. الكاتبة العامة لنقابة الأطباء الاستشفائيين الجامعيين.. هجرة الأطباء أزمة هيكلية حين تسأل حبيبة ميزوني الكاتبة العامة لنقابة الأطباء الاستشفائيين الجامعيين عن ظاهرة العنف ضد الأطباء التي تتزايد يوما بعد آخر ترد هذه ليست قضية هيكلية. فقطاع الصحة العمومية يغرق في مشاكل هيكلية حان الوقت لمعالجتها. لو نطلب منك ترتيبا لهذه المشاكل الهيكلية بماذا تبدئين؟ بالمديونية فالمستشفيات ليست بصدد الحصول على مستحقاتها المالية من صندوق التأمين على المرض. وهي أزمة من الضروري حلها بشكل عاجل. فالأمر لا يحتمل الانتظار خاصة أن المتخلدات بالمليارات علما أن هذه المشاكل الهيكلية لا يتم حلها دون إرادة سياسية. كما أن مستشفى دون اعتمادات لا يستطيع تقديم الخدمات المطلوبة. وفي اعتقادي العجز عن حل أزمة الصناديق يعني التضحية بالصحة العمومية. وثاني هذه الازمات الهيكلية هي هجرة الأطباء. وهو ملف يبدو أن لا أحد يكترث اليه فأين البرلمان والسلطات من هذا؟ وأين التخطيط والبرمجة؟ فالاستثمار في القطاع الصحي العمومي يعني بناء مستشفى وتجهيزه وتوفير موارد بشرية له. لكن يبدو أنه ليس لدينا أي خارطة صحية. أي موقع للفساد في هذه المشاكل الهيكلية؟ لابد من فتح هذا الملف. أذ هناك لوبيات نافذة في القطاعين العام والخاص وفي مختلف المستويات. كما لابد من التركيز على البرامج الوقائية الناجعة. فتونس بعد الاستقلال نجحت في وضع برامج وطنية ناجحة ضد السل والكوليرا وغيرها من امراض العصر ونجحت في التصدي لها. واليوم هناك أمراض تقتل الناس ولكن ليس للسلطات أي برامج وقائية ضدها مثل مرض السكري والسرطان وارتفاع ضغط الدم. وفي اعتقادي هذا شأن وطني لا يهم وزارة الصحة وحدها. بل هو أمر موكول الى مختلف السلطات. فالوقاية هي كل شيء وغيابها له كلفة صحية وعائلية ونفسية واجتماعية وغيرها. أما العنف وبقية المظاهر فهي نتائج هذا الوضع الذي تحدثنا عنه. أي دور لنقابتكم تجاه هذه الأزمة؟ تقدمنا بمقترحات عملية للسلطات منذ سنوات لحل مختلف هذه الأزمات الهيكلية والمشكل ليس في الاستماع الينا. بل العبرة في النتيجة. وهذا ما لم نره. كما أن خدمات الخط الأول أصبحت ضعيفة جدا. والمقصود بالخط الأول هو الرعاية الصحية الأساسية فلماذا لا يلفت هذا الواقع أنظار السلطات.