يختارني الإيقاع، يشرق بي أنا رجع الكمان، ولست عازفه أنا في حضرة الذرى صدى الأشياء تنطق بي فأنطق.. كلّما أصغيت للحجر استمعت الى هديل يمامة بيضاء تشهق بي : أخي! أنا أختك الصغرى، فأذرف باسمها دمع الكلام وكلما أبصرت جذع الزنزلخت على الطريق الى الغمام سمعت قلب الأم يخفق بي أنا إمرأة مطلّقة، فألعن باسمها زيز الظلام وكلّما شاهدت مرآة على قمر رأيت الحب شيطانا يحملق بي : أنا مازلت موجودا ولكن لن تعود كما تركتك لن تعود، ولن أعود فيكمل الإيقاع دورته ويشرق بي.. في بيت أمي في بيت أمّي صورتي ترنو إليّ ولا تكف عن السؤال : أأنت، يا ضيفي، أنا؟ هل كنت في العشرين من عُمري.. بلا نظارة طبية، وبلا حقائب؟ كان ثقب في جدار السور يكفي كي تعلّمك النجوم هواية التحديق في الأبدي.. (ما الأبدي؟ قلت مخاطبا نفسي) يا ضيفي.. أأنت أنا كما كنا؟ فمن منا تنصل من ملامحه؟ أتذكر حافر الفرس الحرون على جبينك لم مسحت الجرح بالمكياج كي تبدو وسيم الشكل في الكاميرا؟ أأنت أنا؟ أتذكر قلبك المثقوب بالناي القديم وريشة العنقاء؟ أم غيرت قلبك عندما غيرت دربك؟ قلت : يا هذا، أنا هو أنت لكني قفزت عن الجدار لكي أرى ماذا سيحدث لو رآني الغيب أقطف من حدائقه المعلقة البنفسج باحترام.. ربّما ألقى السلام، وقال لي : عد سالما.. وقفزت عن هذا الجدار لكي أرى ما لا يرى وأقيس عمق الهاوية لا ينظرون وراءهم لا ينظرون وراءهم ليودّعوا منفى فإن أمامهم منفى، لقد ألفوا الطريق الدائري، فلا أمام ولا وراء، ولا شمال ولا جنوب «يهاجرون» من السياج الى الحديقة، يتركون وصية في كل متر من فناء البيت : «لا تتذكروا من بعدنا إلا الحياة».. «يسافرون» من الصباح السندسي الى غبار في الظهيرة، حاملين نعوشهم ملأى بأشياء الغياب : بطاقة شخصية، ورسالة لحبيبة مجهولة العنوان : «لا تتذكري من بعدنا إلا الحياة» «ويرحلون» من البيوت الى الشوارع، راسمين اشارة النصر الجريحة، قائلين لمن يراهم : «لم نزلْ نحيا، فلا تتذكرونا» يخرجون من الحكاية للتنفس والتشمس يحلمون بفكرة الطيران أعلى.. ثم أعلى يصعدون ويهبطون.. ويذهبون ويرجعون.. ويقفزون من السيراميك القديم الى النجوم. ويرجعون الى الحكاية.. لا نهاية للبداية يهربون من النعاس الى ملاك النوم، أبيض، أحمر العينين من أثر التأمل في الدم المسفوك : «لا تتذكروا من بعدنا إلا الحياة».. -هذه القصائد مختارة من ديوان محمود درويش الجديد «لا تعتذر عما فعلت» الذي يصدر اليوم عن دار رياض الريس بمناسبة معرض بيروت للكتاب.