إذا ما اعتبرت الفلسفة الفينومنولوجية ان الجسد شرط ادراك العالم، وان الذات لا تعيش في عالم من حالات الوعي او التمثلات وانما تعيش في عالم التجربة (1) فان درويش حاك الجسد في قصيدة «شتاء ريتا الطويل» من ديوانه «احدى عشر كوكبا» بؤرة دلالية فنية مولدة امتدت مقطاعها خلايا بمثابة وحدات دنيا حيوية تؤسس لمفهوم الجسد الفاعل، المجذّر للكائن في الوجود، وهذا المعطى الانثروبولوجي امتد في طقس احتفالي لليلة حب. «ريتا ترتب ليل غرفتنا: قليل هذا النبيذ» وطقس احتفالي لاقتحام عالم القصيدة ومفهوم الجسد هنا يتعدى المعطى الايروسي لتكون المعايشة: معايشة الجسدين لحظة تفاعل قصوى لمعايشة الاشياء واستدعائها للاقامة بين المدرك من خلال الجسد والواقع في غياب هوية حسابية وفي استحضار الخصائص الحيزة للمدرك من الاشياء ذاتها (2). «هل لبست سواي؟ هل سكنتك امرأة؟ لتجهش كلما إلتفّ على جذع فروعك؟ حكّي لي قدمي، وحك دمي، لنعرف ما تخلفه العواصف والسيول مني ومنك...» تتقطر الاشياء في العالم وتخلف الفوضى في الكون لتعيد ترتيب الاشياء في اChiasmeب: (تلاقي، تفاعل بين جسدين) وتنطلق الرغبة لاقتحام الاشياء في العالم وامتثال العالم في ثنائية غائيتها الاكتشاف. «حك دمي لنعرف ما تخلفه العواصف والسيول مني ومنك» وتكون هذه اللحظة بمثابة المكاشفة في مستوي أول وهي مكاشفة العالم من خلال جسدين وهي لحظة التكاشف الشعرية فيما يخلفه عالم الكتابة: «مني ومنك» وهي في مستواها الاعمق اكتشاف العالم واحتضان الاشياء في لحظة ضرورية (3) تتعدى الجسد بالعالم لتتجاوزه لالتقاء الجسد بالجسد في «مادية حيوية» وامتثال العالم من خلال لحظة مماثلة واكتشاف. يكتسي هذا الاكتشاف او التكاشف عالم جمالي يجعل من الجسد بؤرة فنية توليدية لأهم سطور القصيدة. ++++++++ «تنام ريتا في حديقة جسمها» ويجعل من هذا الجسد موطنا لاكتشاف ولذة ومعايشة «حَيَايْ» تنام الاشياء في ريتا: «نامت موجة القمح النبيل على تنفسها البطيء ووردة حمراء نامت في الممر ونام ليل لا يطول» تنام ريتا، وتنام لحظة التكاشف والاقتحام: «هدأت خلايا النحل في دمنا فهل كانت هنا ريتا وهل كنا معا؟» في انتهاء لحظة الالتقاء يختفي جسد ريتا مخلفا الذاكرة تعويضا عن رغبة الشاعر في تواصل اكتشاف العالم من خلال جسد ريتا يصبح العالم وعالم القصيدة في لحظة توتر، في لحظة انحراف بين عالم الحضور وعالم الغياب، وتبقى بقية القصيدة تنهل من عالم التمثل ومعينها الذاكرة: «قبّلني على شفتي: قالت قلت يا ريتا أأرحل من جديد مادام لي عتب وذاكرة، وتتركني الفصول بين الاشارة والعبارة هاجس؟» عند رحيل الجسد تحضر الذاكرة ويختل عالم الفن، بما انه يخرج من عالم نقل المعايشة الجسدية الحية الى نقل ما امتثلته هذه المعايشة اي بقايا حضور اللحظة التي يختل فيها عالم اللغة وتعيش القصيدة كما يعيش الجسد لحظة عدم ادراك الاشياء وتوزعها في خارطة جديدة «لا أدرك المعنى تقول ولا أنا لغتي شظايا كغياب امرأة، عن المعنى، وتنتحر الخيول في اخر الميدان...» ويتواصل نسق التمثّل واستيعاب لبقايا حضور اللحظة في انزلاق خفي بين الماضي والحاضر: «والحرب ليست مهنتي وانا انا هل انت انت؟ أنا هو» انتقال من المعايشة والتجربة الى الحديث عن التجربة: «هو من رأى شهواته تجري وراءك كالغدير هو من رآنا تائهين توحدا فوق السرير وتباعدا كتحية الغرباء في الميناء، يأخذنا الرحيل في ريحه ورقا ويرمينا امام فنادق الغرباء» تصبح بهذا القصيد عالما مبنيا على عالم اخر، ويصبح الجسد ذاكرة للجسد وتنتقل القصيدة من عالم الغفوة والتذكّر الى الرغبة في اعادة تمثل العالم من خلال الجسد، اين الدليل؟ «ريتا اعيديني الى جسدي لتهدأ لحظة كبر الصنوبر في دمي المهجور بعدك، كلما عانقت برجي العاجي فرّت من يديّ يمامتان... قالت سأرجع عندما تتبدل الايام والاحلام، يا ريتا طويل طويل هذا الشتاء، ونحن نحن، فلا تقولي ما اقول، انا هي «............. ومررت بين سيوف اخوتها ولعنة أمها، وأنا هي هل انت انت؟» هل كانت عودة؟ وتتواصل القصيدة في ومضات من عالم ريتا وجسدها وتضفي ومضات من الجمالية والتخييل: «كرذاذ ضوء داكن فوق الرخام الانثوي تعيد ريتا زرّ القميص الى القميص الخردلي... أأنت لي؟» تتعالق الصور في مساحة لحظتين، لحظة الجسد ابتدأت: «حكي لي قدمي، وحك دمي لنعرف ما تخلفه العواصف والسيول مني ومنك ولحظة الذاكرة: قلت فيك وفيّ نهر واحد وانا أسيل دما، وذاكرة أسيل» تنجذب القصيدة شيئا فشيئا نحو بدايات ظهور عالم الغياب، ويغيب الجسد في مساحات الذاكرة والكتابة: برسالة من لفظتين صغيرتين، أنا، انت فرح صغير في سرير ضيق، فرح ضئيل ويغيب الجسد بمعناه الحيوي المولّد للرغبة في اقتحام العالم الى لحظة التكشف، ان لا أرض للجسدين تصبح لحظة تشكل جديدة وهي انتشال للأرض، تشكيل الارضي للاأرضي، فلحظة الاكتشاف لا تتم في غياب أرض للجسدين ويصبح عالم التجربة فاعل منته لحظة الوعي بالالام، لحظة الوعي بزيف الاشياء، لحظة الوعي بسقوط الاشياء عندما لا تكون في تربتها: «لا أرض للجسدين في جسد، ولا منفى في منفى في هذه الغرف الصغيرة، والخروج هو الدخول» ينتهي الشاعر بالوعي بالاقامة في قلب غياب الاشياء وان مشروع اكتشاف العالم من خلال الجسدين هو مشروع اكتشاف لأشياء عاتية ولا مرئية وان عالم التجربة الفاعل هو منته وان عالم الذاكرة يتمثل ذاك العالم منته ابيض، لأن مشروع ترسيخ الجسد وتجذيره هو مشروع مفقود وغائب، وان عالم القصيدة يتراوح بين الحياة واللاحياة وبين الاقامة والرحيل: «وضعت مسدّسها الصغير على مسودة القصيدة ورمت جواربها على الكرسي، فانكسر الهديل ومضت الى المجهول حافية، وادركني الرحيل» كيف انتقل عالم القصيدة من مشروع حضور الى مشروع غياب؟ من أسس للحظة، لحظة القيام بين العالمين، لحظة انتشال التجربة من اللاتجربة. كيف انتقلت التجربة الحية بواسطة الجسد الى تجربة حية اخرى بواسطة اللغة، هل معنى ذلك ان قصيدة شتاء ريتا الطويل تتفاعل في مجموعة من الوسائط؟ لم يكن الجسد كما أسلفنا القول مجرد واسطة في العالم والانسان، كان معايشة جنة سرت نبضاتها في خيالية الصور التي نسجها الشاعر من ومضات التجربة وفاعليتها لذا كانت اللغة في نفس درجة الفاعلية التي احدثها الجسد، اي اللغة هي الجسد فلقد كان الجسد النواة الاساسية لاكتشاف العالم والاحياء وكانت اللغة بالتالي في القصيدة هي صورة لهذا الجسد، صورة لهذا النبض الحياتي، فهي المعنى لما تخلفه بقايا حضور الاشياء، هي نقل لعالم لا متواصل لعالم يتواصل هو عالم الشعر والفن، ذلك ان اللغة ليست في ذاتها اساس الحل، لكنها تمثل لحظة الانعتاق، من لحظة معايشة تتكلم الى لحظة معايشة تقول الاشياء حتى تكشف عن كوامن ما بقي من العالم المعاش ان اللغة بهذا المعني، معنى إعادة تأسيس لعالم منته بمقاييس معايشة جديدة. يقول ريكور، «تجربتي لا يمكن ابدا ان تصير تجربتك... لكن هناك مع ذلك، بيت يعبر مني اليك شيء ينتقل من نطاق حياة إلى اخرى، وليس هذا الشيء هو التجربة كما تتم تجريبها، بل معناها، وهنا تكمن المعجرة». تصبح اللغة هنا مجالا حيويا، يكمن في تجذير المعني، فاذا كان الجسد شرط لولادة المعنى، كانت اللغة شرطا لتجذيره وبهذا يصير التقاء من نوع اخر يتوازى بالتقاء الجسدين، هو التقاء التجربة واللغة. يقول ريكور (شيء يتنقل من حياة الى اخرى) ويصبح بهذا الامر مجال تفاعل حيوي، نتاج عن اتصال عالميْ، عالم الجسد في تجربة وعالم اللغة في غرس التجربة وعلى هذا النحو يصبح الاتصال انتصارا على عدم امكان نفل التجربة المعيشية كما عيشت. لا تزال ريتا درويش غافية في حديقة جسمها ولا يزال درويش يبحث عن سرير يتسع لازهارها، لازالت لحظة الشعر تتكاثف نحو الحلم ونحو بناء وطن للحلم. ------------------------------------------------------------------------ 1) موريس ميرلوبونتي : بنية السلوك. ص 204 / 206 2) نفس المصدر 3) نفس المصدر 4) بول ريكور: نظرية التأويل وفائض المعنى