بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي في رواية «خطوط الطول خطوط العرض» الصادرة طبعتها الأولى ببيروت دار الطليعة 1983 ضمّت مجموعة من الشخصيات سواء كانت عراقية أم عربي (تونس لبنان) تعيش اغترابها المزمن، وكل شخصية منها عرفت العيش خارج وطنها وعانت ما عانته مثل غياث داود (العراقي) سيد بنت المنصف (التونسية) وحسان صبحي (السوري) رغم أن غياث داود كان في تونس ضمن عمل رسمي وضعه فيه بلده إلا أنه فوجئ بنماذج من المثقفين الذين لم يتجانسوا مع مجتمعاتهم لسبب أو آخر فسميرة حليم اللبنانية هربت الى قبرص وعاشت هناك، وحسان صبحي المثقف السوري اختار بيروت مستقرا له ولأسرته بعد أن تعذر عليه البقاء في دمشق رغم أنه ابن حاراتها القديمة. وسعيدة بنت المنصف صديقة غياث داود التونسية، عملت مضيفة في الخطوط الجوية، ثم تركت عملها لتتزوج من فلسطيني يقيم في لبنان ولم تستمر علاقتهما الزوجية فانفصلت عنه وعادت الى تونس لتلتقي غياث داود وليعيشا تجربة ممتلئة، كانا يبدوان فيها وكأنهما خارج الزمن التونسي. لكن الشخصية المغتربة التي غادرت العراق وتسكّعت على خارطة الدنيا ومرّت بتجارب متعددة على كل المستويات هي شخصية كامل السعدون الذي ظلّ خارج كل السياقات، تتقاذفه المدن وتعتصره التجارب وهو في تحليقه الأبدي، كأنه طائر من وهم. وكامل السعدون أردت أن ألخّص فيه عشرات الوجوه التي عرفتها والتي لم «تتأقلم» و«تتواءم» مع الواقع العراقي فغادرت ومضت في متاهات اغترابها. وربما كان العراق من أكثر بلدان الدنيا التي عرف أبناؤها المنافي والهجرات القسرية والاختيارية، وفي كل مرحلة من مراحل البلد السياسية هناك أفواج تغادر وتفرّ وأخرى تعود ظنا منها أن المرحلة صارت لها لكن شيئا من هذا لم يحدث. كان السياسيون المعارضون للحكم منذ الفترة الملكية يتمّ نفيهم من مدنهم الى مدن أخرى فإن كانوا من الشمال ينفون الى مدن الجنوب وبالعكس، وكان على المنفيين داخل وطنهم أن يوقّعوا في دفتر لدى شرطة الأمن صباحا ومساء. ثم تحول النفي الى معسكرات تدريب عسكرية تقام لكل اليساريين في أواخر الفترة الملكية. لكن العهد الجمهوري أبقى على النفي من مدينة الى أخرى رغم أن بعض العراقيين المعارضين لحكم نوري السعيد (أشهر رؤساء الوزارات الملكية) قد وصل بالحد بالحكم أن أسقط عنهم الجنسية العراقية وهذه مأساة. الجواهري والبياتي والسياب وذو النون أيوب وغائب طعمة فرحان ومحمود صبري (الرسام) كلهم عاشوا المنفى الخارجي. واليوم اتسع المنفى العراقي خاصة بعد احتلال العراق حتى صار المنفى وطنا آخر نظرا لكمّ العراقيين الذين يعيشون في بلدان الجوار العربية أو البلدان الاسكندنافية أو كندا وأستراليا وأمريكا وبلدان أخرى (ذكر أن بعض العراقيين وصلوا حتى بلاد الأسكيمو!!). وأضيف هنا أن موضوع الاغتراب حاضر في روايتي الجديدة «نحيب الرافدين» التي صار حلم بطلها غسان العامري، لا همّ له، لا هاجس، لا حلم إلا أن يغادر وطنه، وهو لا يستطيع هذا لأنه كان ممنوعا من السفر أسوة بكل العراقيين الذين حرموا من السفر عندما كانت الحرب مشتعلة بين العراق وإيران على مدى ثماني سنوات. كما قدمت في أحدث رواياتي «هناك في فجّ الريح» الاغترابات العربية وخاصة الاغتراب الفلسطيني، وكيف عاش الفلسطينيونبتونس سنوات ما قبل اتفاق أوسلو. والشخصية المحورية فيها رسام عراقي اسمه حسان الزيدي الذي غادر بغداد شبه هارب وانضم الى منظمة التحرير الفلسطينية ليعمل رساما في احدى مجالاتها التي كانت تصدر بتونس ثم غادر مع من غادروا الى ما أعيد من مدن فلسطين بموجب اتفاق أوسلو. هي سلسلة متواصلة من العذاب العراقي الذي يبدأ بمغادرة قرانا ومدننا الصغيرة الى العاصمة وعندما يكبر العسف تتقاذفنا المنافي والمسافات ويأخذنا مرّ النأي والابتعاد. قدمت الشهادة بندوة في مراكش شهر رمضان الماضي