ثمة أسئلة محيرة في الكاف: «من أضرم النار في مقر البلدية ؟ من سرق قباضة المالية ؟ من أحرق البنوك ؟ من جمع اللصوص والمجرمين وسلحهم بالسيوف والسكاكين وأطلقهم في شوارع الكاف يومي الأحد والاثنين 7 و8 فيفري لزرع الرعب فيما كانت بلادنا بصدد التنعم بأول أيام الهدوء الأمني ؟ ثمة قناعة في مدينة الكاف بأن أحداث الأيام الثلاثة التي بدأت يوم السبت 6 فيفري كانت منظمة ومدبرة مثل خطة إجرامية لا يتورع من نظمها أو نفذها عن اقتراف أي جرم مهما كانت خطورته مثل القتل الجماعي العمد، وأن الذين نظموا هذه العملية كانوا يهدفون إلى إغراق المدينة في الدم والاقتتال والنهب المنظم، وقد تكشف الأيام القادمة أن من بعض أهداف تلك العملية إتلاف العديد من الوثائق التي تدين أشخاصا معروفين بكل ما يتعلق بالإثراء غير المشروع، التدليس، الاتجار في المخدرات والقمار، الاستيلاء على الأموال والأملاك العمومية وغيرها مما جعل الجهة كلها «تقع على ركبتيها» في العقدين الأخيرين من فرط النهب والسرقة وسوء التصرف كما قال لنا محام معروف في المدينة. لم يكن ملاكا، لكن... الغريب هو ما يفاجئنا به أهالي الكاف، حيث الجميع يملكون أجوبة عن هذه الأسئلة، يعرفون من فعل ماذا، بالأسماء والصفات والتفاصيل، لكن الخوف والتجارب المؤلمة التي عاشها الكثير منهم عند محاولة قول كلمة الحق حول ما يحدث تدفعهم إلى تفضيل الصمت والسلامة. آخر ضحايا محاولة كسر جدار الصمت كهل من المدينة نشر على موقع «فايس بوك» أسماء بعض المورطين ممن يعرف كل سكان المدينة أدوارهم التاريخية في انتشار الفساد المالي والسياسي في الأيام الأخيرة، فكان أن نال «طريحة» سالت فيها دماؤه وتحدث عنها كل سكان المدينة. يقول لي إطار مثقف في مؤسسة حكومية: «منذ أعوام دخلنا في تلك المرحلة اليائسة التي تلعن الرجولية التي تجلب الذل»، الجميع يعرف كل شيء، وخصوصا تورط كبار المسؤولين في المدينة وفي العاصمة في تحالف مع الإجرام. في مرات قليلة تولى أعوان الشرطة إيقاف بعض المورطين في أعمال الفساد والإجرام في المدينة لكن التعليمات كانت تأتي بإطلاق سراح المتهمين وتوبيخ موظفي الأمن الذين تجرؤوا على التعرض للمجرمين. وعندما سقط النظام عاد رئيس المنطقة خالد الغزواني إلى المدينة مهددا بأنه سوف «يطهرها من المجرمين». يقول لي الإطار الحكومي موضحا: «لم يكن رئيس المنطقة ملاكا في مدينة الكاف، لكن تهديده كان كافيا لإطلاق الزعامات الكبيرة للإجرام ضده، فاستغلوا الغضب العام لاقتحام إقليم الشرطة، ومحاولة قتله وخصوصا سرقة الأسلحة النارية وإغراق المدينة في حمام دم». يمكن سماع الرواية ذاتها من عشرات الأشخاص المحترمين، يقول لي طبيب في المستشفى الجهوي بالكاف: «المدينة صغيرة جدا، يمكنك أن تعرف عشاء جارك، فما بالك بتصرفات أشخاص ينفقون آلاف الدنانير في الإجرام». يرى الناس عمارات ترتفع وأملاك تتضاعف ومزارع تشترى وسيارات غامضة لا يقل ثمنها عن 100 ألف دينار ويعرفون أن أصلها مشكوك فيه. «المدينة لا تحتمل مثل كل ذلك الثراء الفاحش دون مبرر، خصوصا حين تنتشر المخدرات». مليشيات في المدينة شهدت مدينة الكاف في الأعوام الأخيرة انتشارا مذهلا للمخدرات، أغلقت مقاه ومحلات عمومية ضبطت فيها مثل هذه المحظورات، أوقف أشخاص كثيرون ثم ظهروا أحرارا كأن شيئا لم يكن، وعادت الاحتكارات نفسها للنشاط. ظهرت بيوت للقمار في شهر الصيام، وأوكار للفساد والإجرام في ظل انتشار البطالة وانسداد الأفق للآلاف من الشباب من حاملي الشهائد. في الأثناء، كانت زعامات الإجرام تزداد تنظيما وحماية وحصانة في تحالف مثير بين الإجرام والسياسة. ثمة أخبار عن مليشيات مسلحة تم إعدادها قبل هروب بن علي ومن معه من البلاد لمواجهة أي تحرك شعبي على غرار ما وقع في بقية المدن التونسية. ثمة أيضا شهادات عما قاله أحد زعماء الإجرام في الكاف عن استعداده «لتنشيط 150 شخصا من مشاهير الإجرام في المدينة»، قصد حماية مقر لجنة التنسيق بالكاف والولاية ومساكن أي شخص يستهدفه الناس بالثورة. بعدها ظهر في المدينة مرة أخرى محافظ الشرطة السيد خالد الغزواني، الذي حاول في ما مضى أن يواجه بعض زعماء الإجرام في المدينة. سوف يقول لي أغلب الذين تحدثت معهم حول هذا المقال محذرين: «يجب التوضيح أن أعوان الأمن كانوا بصفة عامة قبل سقوط النظام مع رموز الفساد، لذلك كان من السهل استغلال غضب الشعب عليهم للهجوم على منطقة الشرطة ثم الإقليم»، وهو ما حدث يوم السبت حين أحرق الناس مقر المنطقة. حمام الدم إن الغضب الشعبي ضد الشرطة كان جاهزا منذ أعوام، ضد هذا الجهاز الأمني الذي تورط في دعم رموز حزب التجمع الدستوري ومن تحالف معهم في المدينة. وهكذا لم يكن أمام هذه المجموعة سوى توظيف ذلك الغضب، وإطلاق شرارة اللهب بإطلاق تلك المرأة التي هيجت الجمهور الغاضب بعد الجنازة الجماعية لشهيدي المواجهة الشعبية أمام منطقة الشرطة مساء يوم السبت 6 فيفري. بعدها، حدث ما لم يكن أحد يتوقعه: عشرات من المنحرفين، أغلبهم في حالة سكر انتشروا في المدينة. أغلبهم لم يكن يعرف حتى معنى الشعارات السياسية التي يرفعها الناس، لكنه تلقى تعليمات لتهييج الناس ضد الشرطة وضد رئيس المنطقة». وهكذا انطلق الشيطان من قيوده في المدينة مستهدفا رئيس المنطقة كشخص، وخصوصا الأسلحة النارية والوثائق القانونية التي تتعلق بخفايا الإجرام. إن مجرد التفكير في انتشار الأسلحة النارية في المدينة بين أيدي المجرمين يعني التخطيط لحمام دم في المنطقة كلها، خصوصا وأن الذين فعلوا ذلك هم من ذوي السوابق الإجرامية. حدثت أعمال نهب وسلب في الطريق العام، واستهداف لكل نشاط تجاري واجتماعي في المدينة حتى لجأ التجار إلى سد واجهات محلاتهم بالآجر والكنتول والاسمنت خوفا من النهب والسلب. وفي يوم الاثنين، بلغ صبر الناس مداه، وبدت مدينة الكاف مثل مملكة الفوضى والإجرام، كما يروي لنا الأستاذ نجيب الحسني، المحامي الذي قضى أكثر من عشرين عاما في النضال مع عدد قليل من أصدقائه. تم تكوين لجنة أمن شعبي اعتمادا على إذاعة الكاف التي غامرت فعلا بذلك، وخصصت إحدى قاعاتها لهم لتوجيه النداءات للناس قصد مواجهة الجريمة المنظمة التي تهدف إلى إغراق المدينة في حمام دم. «ثمة مجموعة من القيم الأخلاقية التي يجتمع عليها الناس منذ آلاف السنين في المدينة، وكان لابد من العودة إليها، وهكذا نظمنا الحياة في الكاف». وفيما كان أهالي المدينة يواجهون الإجرام المنظم بوسائلهم البسيطة، قدم أعوان الفرقة الخاصة للحرس الوطني، الذين بدأوا العمل في صمت، ودون إحداث أي ضجيج لكنهم انتهوا في ساعات إلى إيقاف أهم المتهمين في ما حدث، دون أية حاجة إلى إرشاد أو شهادات لأن الحقائق التي يعرفها الجميع وصلتهم، غير أن الحدث الأهم كان إيقاف «بشير الجلاصي»، الذي يتهمه سكان الكاف بأنه أصبح ملك الإجرام في الجهة، وأحد أهم أثريائها. البحث عن البشير... إن إيقاف بشير الجلاصي كان حدثا بكل معاني الكلمة، رغم ما كرره لنا أغلب الذين تحدثنا معهم من أن إيقاف البشير يجب أن يكون مقدمة للوصول إلى رجال السياسة والحكم والمال الذين تحالفوا معه ووفروا الأجواء التي جعلت مثل هذا الرجل يصبح أهم وجهاء المدينة ثم يتورط في أحداث العنف. وفي الليلة الفاصلة بين يومي الأربعاء والخميس الفارطين، داهمت مجموعة خاصة إحدى مقرات بشير الجلاصي، وهي فيلا تشبه القصر عند المدخل الشمالي للمدينة. كان ذلك منتظرا ومتوقعا في المدينة التي فاض بها كأس الصبر ولم تعد تحتمل المزيد من الصمت على ما حدث خصوصا من إطلاق قطعان المجرمين وذوي السوابق في المدينة ودعمهم بالمال والمعدات لأجل نشر الفوضى. روى لنا الكثير من الثقاة في حي الدير كيف شاهدوا تفاصيل الهجوم على «قصر البشير»، وكيف حاول بعض من معه المقاومة، وكيف كانت خبرة الأعوان الملثمين والذين يعملون «دون أن يكلموا أحدا» في الحد من الخسائر البشرية تحت إشراف عسكري وطائرة هيلوكبتر كانت تراقب المنطقة على علو منخفض. انتهت العملية بإيقاف «بشير الجلاصي»، الرجل الذي بدأت شهرته في سنوات الثمانينات ب«البونية» وانتهى إلى أحد أثرى أثرياء الكاف إن لم يكن أحد أثرياء البلاد كلها، وبقوة قبضة اليد المتحالفة مع السياسة القذرة والانتهازية لمن في الدولة. وفي المقال القادم، سوف نتحدث عن بقية تفاصيل قصة هذا الرجل الذي أصبح أسطورة في تونس وأنموذجا للنجاح «حتى وإن كان نجاحا إجراميا» خصوصا بعد أن راج أنه تحالف مع عائلة الطرابلسية.