ليست العبارة أعلاه عنوان «معارضة روائيّة» حديثة لرائعة دوستويفسكي «الجريمة والعقاب»، بل هي العنوان الوحيد المناسب لهذا العصر الوقح، الذي أصبح مجرموه يتبجّحون بارتكاب جرائمهم في منعة كاملة من العقاب وفي استخفاف كامل به، بعد أن كان أسلافهم يحاولون على الأقلّ احترام الديكور والأكسسوارات. لنبدأ من البداية. يوم الأحد 13 أو يوم الاثنين 14 ديسمبر 2009 (حسب الروايات) أصدر قاضٍ بريطانيّ مذكّرة ايقاف بحقّ تسيبي ليفني وزيرة الخارجيّة الاسرائيليّة سابقًا، للتحقيق معها في شأن جريمة الحرب على غزّة التي تمّ ارتكابها بين ديسمبر 2008 وجانفي 2009 وراح ضحيّتها أكثر من 1400 فلسطيني. ما إن تسرّب الخبر حتى جنّدت الدولة الصهيونيّة ديبلوماسيّتها ولوبيّاتها لمعالجة الوضع. ولم تتورّع يوم الثلاثاء عن استدعاء توم فيليبس السفير البريطاني لديها للتعبير له عن احتجاجها على ما حدث. كما أصدرت وزارة الخارجيّة بيانًا تدعو فيه لندن الى «احترام التزامها عدم السماح باستغلال النظام القضائي البريطاني من قبَل أعداء اسرائيل»، مهدّدةً بأنّ «غياب تحرّك حازم لانهاء هذا الوضع سيضرّ بالعلاقات بين البلدين...وسيشكّل عقبة حقيقية أمام رغبة لندن في لعب دور فعليّ في عمليّة السلام في الشرق الأوسط». ثمّة أسئلة عديدة تفرض نفسها هنا: أوّلاً: لماذا تسرّب الخبر ومن سرّبه؟ وهل تمّ تسريبه بعد تهريب ليفني من لندن أم قبل وصولها اليها، في تواطؤ وحرص على تلبية حاجات في نفس «جاكوب»، من بينها ربّما أن لا يحدث للوزيرة السابقة ما حدث للمُخرج البولوني الفرنسي رومان بولونسكي حين أوقف يوم 27 سبتمبر 2009 حيث كان يتوقّع التكريم؟ لغز قد لا يحتاج حلّه الى تفكير طويل، خاصّة حين ننظر الى التكتّم والحياء غير المسبوقين اللذين تعاملت بهما أجهزة الاعلام الغربيّة (وحتى العربيّة) مع المسألة. ولعلّ الجميع على حقّ، فبولانسكي مطلوب من الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ليواجه حكمًا بالسجن في قضية تعود الى سنة 1977 متعلّقة بمواقعة فتاة قاصر لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها. ولكنّ هذه القاصر أمريكيّة. بينما تسيبي ليفني لم تفعل غير المشاركة في قتل 1400 طفل وشيخ وامرأة من الفلسطينيّين. فهل تستحقّ الوزيرة «المغبونة» عمليّة ايقاف «جيمسبونديّة»؟ ومن أجل من؟ من أجل عرب مسلمين؟ ثانيًا: أليس الكيان الصهيونيّ هو بطل العدو الريفي في ملاحقة النازيّين القدامى وصاحب الرقم القياسيّ العالميّ في المطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب مهما تقادمت جرائمهم؟ ألا يدّعي أنّه ممثّل الغرب الديمقراطيّ الوحيد المزروع في قلب الشرق للدفاع عن قيم العدالة واستقلال القضاء واحترام القانون؟ فكيف يسمح لنفسه بالتحريض على التدخّل في القضاء البريطانيّ، والاعتداء على قانون دولة ذات سيادة؟ طبعًا ليس في الأمر ما يبعث على الاطمئنان. الوزيرة الموقّرة أعلنت عن افتخارها بما اعتبره القاضي جريمة. والمصالح السياسيّة البريطانيّة والغربيّة عمومًا قد لا ترى مانعًا من الذهاب في هذا الاتجاه. والآلة الفكريّة والأخلاقيّة معطّلة. ولا يبدو على الجانب العربيّ وحتى الفلسطينيّ (الرسميّ) ما يدلّ على رغبة حقيقيّة في فعل شيء حقيقيّ. وبين هذا وذاك يستبسل بعض الصادقين من نشطاء العمل الوطنيّ والمدنيّ دون أن يكونوا واثقين من أن الطرف المقابل لن يجد حيلاً «قانونيّة جدًّا»، تجعل كلّ هذا التفاؤل بثأر قانونيّ من مجرمي الحرب الصهاينة، يتلاشى مثل السراب. ثمّة رائحة نتنة تفوح من كلّ هذا الذي يحدث. رائحة ظنّ البعض أنّها ذهبت الى غير رجعة مع دابليو بوش. لكن يبدو أنّهم تفاءلوا أكثر من اللزوم. والخوف كلّ الخوف أن تتفشّى عدوى الديمقراطيّات العضوض في كلّ بلاد تأخذها العزّة بالجبروت، فاذا هي تستصدر قوانين «ديمقراطيّة جدًّا» تبرّئ مجرميها مسبقًا من كلّ ما قد يرتكبونه في حقّ الآخرين. انّها رائحة مقرفة فوق قدرة العقل على التحمّل. وكأنّنا أمام العالم وهو يجيف أو هو يدشّن مرحلة جديدة، تنقسم فيها الدول من جديد، وبشكل رسميّ ومعلن هذه المرّة، الى مجموعتين: دول مجرمة وأخرى ضحية الاجرام، دول تخضع للمحاسبة ودول فوق الحساب والعقاب، دول تعيش في عصر الجريمة والعقاب، وأخرى تعيش في عصر الجريمة واللاعقاب.