حوار وإعداد فاطمة بن عبد اللّه الكرّاي كان في زيارة تنسيق واتفاق، بين النقابات المغاربية الثلاث، وقد احتضنتها عاصمة المغرب الأقصى، حين سمع «سي أحمد بن صالح» بخبر إقالته من الكتابة العامة وهو في السيارة التي تقله من الرباط إلى طنجة.. وقد أبدى «سي أحمد» برودا غير عادي تجاه الحدث الذي يخصّ نبأ إقالته، وذلك عندما صرّح الصحفي مندوب «فرانس براس» في طنجة، بأنه لم يشعر بشيء معيّن تجاه ما حدث.. يواصل «سي أحمد» سرد قصّة إقالته في غيابه: «ركبت الطائرة من طنجة إلى روما، وكان المنذر بن عمّار هو سفير تونس بإيطاليا.. نزلت من الطائرة، فوجدت وفدا مكوّنا من النقابيين الحبيب طليبة ومحمود بن عزالدين، وكانا عضوين في المكتب التنفيذي للاتحاد.. جاءا خصّيصا من تونس إلى روما، ليلتقياني في إيطاليا قبل عودتي إلى تونس. وكان المنذر بن عمار ضمن المستقبلين، وما إن تبادلنا التحايا، حتى قلت لهم: ولا كلمة في الموضوع، أي موضوع الإقالة وما حدث في غيابي.. وطلبت من المنذر بن عمار، هل يمكن أن أتصل بأحمد التليلي في تونس، وكان التليلي هو من عيّن كاتبا عاما للاتحاد عوضي أنا.. خاطبت التليلي عبر الهاتف، ولم أتركه يتكلّم: قلت له، يا سي أحمد، أنت أستاذي في العمل النقابي.. «ما تاخذش في خاطرك» أي لا تأبه للأمر، المهمّ أن تبقى المنظمة موحّدة.. ثم التفت إلى طليبة وبن عزالدين، وقلت لهما: هل معكما أموال (فلوس) لنأكل «مقرونة» في السهرية.. وتواصل الحديث عن كلّ شيء، ضحكا تارة وذكريات أخرى، دون أن نتحدث في موضوع الإقالة لا من بعيد ولا من قريب.. وعندما رجعت إلى تونس، من الغد، وجدت عديد النقابيين في استقبالي.. كانوا بالعشرات عند مدرج الطائرة.. وكان هناك صمت رهيب.. وبعض الهتاف.. أحيانا، ودموع بصوت ودون صوت صادرة عن البعض.. لا أستطيع أن أصف تلك الأجواء التي خيّمت في المطار ولا عند مدرج الطائرة تحديدا.. وعندما غادرت المطار، كان المشهد عبارة عن جنازة، وهنا، قرّرت أن أذهب رأسا إلى مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل، وهنا، وما إن ولجت المقرّ حتى توجهت إلى مكتبي، أخذت ورقة بيضاء، وكتبت عليها استقالتي، كتبت على ما أذكر استقالة من مهامي (كاتب عام للاتحاد) ومن كل ما هو نقابي.. ثم توجهت إلى القائم على شؤون الاتحاد وطلباتنا كأعضاء مكتب تنفيذي، النقابي المولدي بن العربي، وهو مناضل، وكان يقرضنا أموالا من صندوق محدود الامكانيات، يسيّر المولدي، بتلك الأموال الشأن اليومي لنشاط واحتياجات النقابيين بالاتحاد..توجهت إلى المولدي بن العربي، وقلت له: كم لك عندي من أموال، اقترضتها منك؟ فردّ: 450 دينارا.. وكان هذا الرقم هو بالضبط ما حدّد لنا في المجلس التأسيسي كنوّاب، وهو راتب ثلاثة أشهر.. وقد صادف وقتها، ان المجلس التأسيسي الذي كنت فيه، نائبا أول لرئيسه لم يعطنا راتب ثلاثة أشهر.. وهنا، قلت له: عندما أتقاضى راتبي من المجلس، سوف أعطيك نقودك.. إذ لم يكن معي ذاك المبلغ ولا حتى أقل منه.. بعد أيام من تلك الاستقالة، بعثوا لي دعوة، لكي أحضر في المجلس الوطني للاتحاد، فذهبت، وكان أحد الأعضاء، يبكي تأثرا.. وقد خصّصوا لي مكانا على المنصّة، وكان أحمد التليلي إلى جانبي، فتوجهت له من جديد، وأعدت على مسامعه ومسامع أعضاء المجلس الوطني، ما كنت قلته له من روما، عبر الهاتف: أنت أستاذي في العمل النقابي، وكنت قلت له هذا الكلام، إذ تذكّرت، حين طلبوا عودتي من السيزل على اثر اغتيال حشاد، وشدّد كل من التليلي وعاشور رهن الإقامة الجبرية في منوبة والمحرص تباعا، على أن أكون الكاتب العام للاتحاد العام التونسي للشغل.. وأذكر أنه خلال تلك الجلسة (المجلس الوطني للاتحاد) كان أعضاء الحكومة من النقابيين، يلبسون نظارات سوداء.. فقلت لهم، وقتها: «سيروا بين المسامير سكوتا.. ولو كانت المسامير مقلوبة» وعندما غادرت القاعة، وجدت محمد الحبيب (أصبح واليا على قفصة فيما بعد عهد الاستقلال) وكان شخصية دستورية قوية، وجدته متخفيا وراء باب القاعة، وما إن وصلت أمام الباب، من جهة الخروج، حتى همّ نحوي يعانقني وهو يقول لي: منّعتنا يا أحمد.. قلت له، وكنت لا أفهم مقصده: لماذا؟.. هذا ما سنعرفه غدا.. إن شاء اللّه..