تعاملت حكومة الغنوشي الأولى و الثانية ثم حكومة السبسي مع المشهد الحزبي كما ورثته باستثناء ” معارضة الديكور ” ولذلك ضمت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة 12 حزبا من مكونات تحالفي “18اكتوبر” و “المواطنة و المساواة” كما ضمت الهيئة أحزابا أخرى اقر الكاتب العام لحكومة السبسي آنذاك إقحامها باستثناء “العمال الشيوعي” و القوميين الناصريين الذين لم يتواجدوا أو رفضوا التواجد داخل الهيئة بصفاتهم تلك .وقد تواصل المشهد الحزبي على هذه الشاكلة قبل أن ينفلت ليبلغ أكثر من 110حزب ليلة انتخابات اكتوبر2011 . سوف تفرز صناديق الاقتراع الملامح الأولى للمشهد الحزبي الحقيقي في البلاد . إذ باستثناء الأحزاب الأربعة الأولى وهي النهضة و المؤتمر و التكتل و التقدمي فان باقي التشكيلات التي تقدمت كأحزاب قد ظهرت في وضعيات ضعيفة أو منعدمة تمثلت في : 1/ القطب الحداثي (التجديد ) و حزب آفاق و المبادرة وقد حاز كل واحد منها عددا من المقاعد لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة مما يجعل وزنها محدودا إلى ابعد الحدود وقد سبق أن فسرنا أسباب هذا الضعف بالعائق الثقافي و بالسمعة التاريخية غير المحمودة التي تحملت هذه التشكيلات وزرها . 2/ الأحزاب الإيديولوجية التقليدية العروبية و الماركسية التي تراوحت نتائجها بين العدم أو ما فاقه بقليل و نفترض أن هذه الأحزاب إذا تواصلت بصيغها الحالية مرشحة للذوبان ” السياسي ” لأسباب معلومة تتعلق بسقوط المنظومة الشيوعية وتحول المطلب الاجتماعي إلى مشترك تمت صياغته بطرق أخرى وبغياب المشكل القومي في تونس ما جعل العروبة موضع اتفاق بحيث لم تعد أساسا كافيا للانتظام الحزبي في تونس . 3/ أحزاب الاصفار الكاملة بلا فواصل و هي إما أحزاب شكلها نشطاء سياسيون بحثوا لأنفسهم عن وجاهات مفترضة قد لا يجدونها في الأحزاب الكبرى أو هي أحزاب عائلات أو أصدقاء شكلها وافدون جدد على العمل السياسي بعد الثورة . المشهد الحزبي الحالي يعيش حراكا لافتا لتتشكل قواه في أحجامها الفعلية على قاعدة المحاور الحقيقية للفرز السياسي الذي عبرت عنه نتائج 23 أكتوبر. ولعل ما نميل إلى التأكيد عليه هو أن الغالبية العظمى للشعب التونسي وعموم الناخبين كانوا معنيين في الثورة و يوم الاقتراع بتصعيد الحكام القادرين على ضمان الإنصاف و التنمية العادلة و الحكم الوطني الرشيد و قد حضرت بقوة مقاييس ” الصلاح الأخلاقي ” الذي ارتبط في وعي أو لاوعي غالب المقترعين بخصائص ثقافية و فكرية معينة و بسيرة سياسية ذاتية مخصوصة وهو ما وجه النسبة الأكبر من المصوتين إلى حزب النهضة أولا باعتبار رمزيته الأخلاقية و الدينية والى حزب المؤتمر و التكتل في درجة ثانية باعتبار نجاحهما في البروز كرمزين أساسيين للتحفظ الثقافي و العفة السياسية التي ميزت سلوك زعيميهما بعد الثورة وقبل الانتخابات على عكس ما بدا على الباقين بدرجات متفاوتة من تحرش ثقافي و لهاث على الحكم كان سببا لما نالوه من عقاب انتخابي بقسوة متفاوتة الدرجة أيضا . أفترض أن مسالة ” الحداثة ” و ” الديمقراطية” لم تكن يوم 23 أكتوبر كما لن تكون في المستقبل محور فرز سياسي لان كل القوى بمن فيها ” حزب النهضة ” يقدم نفسه على هذه القاعدة. ولن تكون المسالة الاجتماعية الاقتصادية أيضا مدخلا لتمييز القوى باعتبار أن الوصفات الأساسية لمنوال التنمية الأكثر ملاءمة للبلاد تكاد تكون معلومة لدى الجميع وهو ما يجعل البدائل في هذا السياق متشابهة على العموم. ولهذه الأسباب نفترض أن المشهد الحزبي في تونس ستتقاسمه كتل ثلاثة متفاوتة الوزن ومتمايزة على قاعدة ثقافية بالأساس : 1/ القوة الإسلامية التي ستظل النهضة محورها الرئيسي و تزعم قراءتنا للوضع المحلي و الإقليمي و الدولي استمرار تقدم هذه القوة في الاستحقاقات القادمة وان كنا نتوقع أن تضطر النهضة باعتبارها حزبا إسلاميا معتدلا للتسوية مع تنظيمات إسلامية أخرى قد تظهر على يمينها وان بثقل محدود . كما نتوقع أن نجاح الحكومة الحالية في أدائها الاجتماعي و الاقتصادي و في ضمان حسن اندماج النموذج التونسي الجديد دوليا سيزيد في تقدم النهضة رغم التحديات الكبيرة التي ستواجهها أهمها القدرة على ترشيد الساحة الإسلامية و التوفيق بين النزوع الراديكالي لبعض قواها و مقتضيات البراغماتية التي لا تجازف بالمصداقية ” الوطنية ” و “الأخلاقية “وهي مهام عسيرة في مجتمع متطلب ثقافيا و دينيا و قوميا وفي ظل معارضة متحفزة وقوى دولية متوجسة . 2/ قوة وطنية ديمقراطية مدنية مؤصلة ثقافيا و سيمثلها المؤتمر و التكتل و لا نستبعد تطور الحراك داخل هذين الحزبين في اتجاه تقارب أرضيتيهما الفكرية بما قد يؤدي إلى بناء ما نسميه بالجبهة أو الحزب الوطني الاجتماعي الكبير الذي نفترض أن يستمر في احتلال المرتبة الثانية بالبلاد كممثل لجزء كبير من الطبقة الوسطى ميال نحو تسيس مدني واضح ومتمايز عن “الإسلامية السياسية “ومتصالح مع الهوية في نفس الوقت . ورغم أننا لا نستبعد تشكل جبهة بين الحزبين في الاستحقاقات القادمة فإننا بالمقابل نعتبر أن انصهارهما في حزب واحد مشروط بالتطورات التي سيشهدها ” التكتل ” في اتجاه الحسم الاستراتيجي في خياره الثقافي كما توحي به بعض تلميحات السيد مصطفى بن جعفر . ونتصور أن نجاح هذين الحزبين في تقديم الإضافة للأداء الحكومي و نجاحهما في معركة الهيكلة و التاطير سيجعلهما مؤهلين للاضطلاع بدور القوة الوسطية الكبيرة خصوصا مع ما يتمتع به الزعيمان المؤسسان من مصداقية رمزية . 3/ ستمثل القوة الثالثة ما نسميه بالنخبة التونسية ذات النزوع ” الكوزموبوليتي ” المنخرطة في مسار التحديث بأفقه الغربي وهي نخبة ذات حضور مهم رغم محدودية عددها. وأميل إلى تصنيف الحزب الديمقراطي التقدمي كقاطرة سياسية لهذه القوة اثر انزياحه المفاجئ بعد الثورة عن الخيارات الثقافية / السياسية التي كان من أهم المدافعين عليها قبل الثورة . وأتصور أن اتجاه هذا الحزب إلى استيعاب “حزب آفاق ” و مشتقاته يؤكد قطعه النهائي مع النزوع الثقافي السابق لزعيمه السيد نجيب الشابي وهو ما يقتضي منطقيا التحاق القطب الديمقراطي الحداثي /التجديد و الأحزاب البورقيبية بقاطرة التقدمي إذا تم تجاوز مشكلة ” الزعامة ” . إن تشكل هذه القوى الثلاثة بهذه الصيغة يبقى في تقديري المسار الأكثر نفعا لتطور المشهد السياسي في البلاد و افترض أن ما يبقى من أطراف إيديولوجية تقليدية خارج هذا التصنيف ستكون ” أفلاك صغيرة ” تدور حول هذه القوى الثلاثة و نتوقع أن من الأسلم سياسيا أن تختار القوى القومية ذات الخلفية الإسلامية خصوصا الالتحاق بالقوة الثانية في حين أتصور أن الأسلم للماركسيين و غلاة العلمانيين اخذ مواقعهم إلى جانب القوة الثالثة .