لافتة كبيرة علقت على جدار البريد المركزي بمديني كتب عليها : " 9 أكتوبر اليوم العالمي للبريد " لم تكن قراءتي لللاّفتة كقراءتي لعديد اللافتات التي يمر عليها بصري مرات و مرات صباحا مساء . لقد استوقفتني هذه اللافتة بل قل شدتني إلى ماض بعيد ينيف على الخمسين سنة، زمن كان فيه للبريد قداسة لا تعادلها قداسة فهو حبل الوداد الممدود بين الأبناء و الآباء و الأصدقاء و رسول المناجات بين العشاق. أذكر جيدا والدتي رحمها الله و هي تنتظر على أحر من الجمر مجيء العم حسن ساعي البريد حتى يسلمها رسالة من أخي الكبير " سيدي محمد " الذي انتقل إلى العاصمة في بداية الستينات لإتمام دراسته. و يوم سافر أخي صعدت كل العائلة إلى سطح الدار و في اعتقادها أنها سترى القطار الذي سينقل أخي إلى العاصمة رغم بعد المسافة بيننا و بين خط السكك الحديدية، فكان هذا يلوح بمنديل و الآخر بإشارة و أمي دموعها متهاطلة على خديها . بعدها تظل غرفة " سيدي " مغلقة تحيط بها الوحشة و يخيم من حولها السكون و والدتي لا تستطيع حتى الالتفات إليها و تأبى قدماها المرور أمامها . كنت أبصرها قلقة حائرة متسائلة عن تأخر عم حسن ساعي البريدعن المجيء و هي لا تستطيع صنع شيء، فتارة تركن في إحدى زوايا البيت يجثم على صدرها اليأس من وصول رسالة من أخي و تارة تراها خارجة داخلة بين باب دارنا و بين فنائه و خاصة بين العاشرة صباحا و منتصف النهار أي موعد مرور عم حسن ساعي البريد عادة. لم أكن أراعي مشاعرها و لم أكن أرأف بعواطفها بل تراني أهيّج نار حرقتها في انتظار مكتوب من أخي مرددا قول الشاعر : " ساعي البريد متى تعود متى ينفك مني قيد النوى خلفت في مغناي والدة تحنى علي أذكى من الجمر" و حين يحل ركب عم حسن و هو يدفع دراجته التي تحمل كيس الرسائل و غيرها تتهلل أسارير وجه أمي فرحا مقيمة له حفل استقبال مهللة مكبرة فتشبعه مدحا و إطراء و تشكره على صنيعه و كأنه هو الذي كتب الرسالة و بعث بها، و كنت بدوري في كل مرة أشبع سمعه فأشعر أن الدنيا لا تتسع لعم حسن قائلا:" عم حسن ساعي البريد أيها المؤتمن على أسرار الناس تحمل لهم الأفراح و الأتراح و أنت الأمين البشوش الصدوق في ذلك " و حينما تتسلم أمي رسالة " سيدي " أصبح منتفخا كالطاووس خاصة في غياب والدي و إخوتي الذين يكبرونني سنا و يتقدّمونني في مدارج الدراسة، فأنا الوحيد الذي سيتولى قراءة نص الرسالة، و أنا المنقذ الأوحد لوالدتي من جهلها لأحوال سيدي محمد الغائب عنها فهي لا تفتأ تلهج بيوم عودته و تغني من حين لآخر : " قولوا لعين الشمس ما تحماش ، لحسن إبني محمد صابح ماشي "