هذا قليل من جميل ثورة مازالت تفاجئ بدروسها الاعداء، فأين ما وليت يوم الاحد 23 اكتوبر وجدت مواطنا صامدا يحمل بين يديه دستور ثورته وينتظر دوره لملامسة الحبر الازرق، والانتصار لدماء الشهداء كان صباحا مختلفا هرعنا فيه جميعا الى الصناديق لنعلن رسميا موت الدكتاتورية ودفن جلاد الشعب ولو خارج البلاد كانت الصناديق تبتسم خالية من التزوير ومن اوراق تعودت ان تجد طريقها الى تلك الصناديق بقوة ساحر ماكر ولم يسلم من هذا التزوير حتى احبابنا ممن يرقدون تحت التراب، فاذا بهم احياء يحملون بطاقة عودتهم إلى الحياة الانتخابية من اجل التصويت لصانع تغيير ركيك وذلك قبل ان يعودوا ليناموا بعد استكمال مهمتتهم فبإعلان الولاء للجنرال وتعويض الاحياء احسن تعويض. نعم هكذا كانت تجري الانتخابات طيلة خمسة قرون في تونس الكل يصوت: الحجر والطيور والاشجار والاموات لتطلعنا بعد ذلك في نشرة الثامنة للانباء مذيعة بهيّة تبتسم ابتسامة تجمّعية لتعلمنا بفوز المخلوع الفار وحزبه بنسبة قياسية. اليوم تحققت هذه النسبة على ارض الواقع لكن بعدد المشاركين في العرس الانتخابي الذين سفهوا زعماء السياسة عندما وما كانوا به يسفسطون ويصرخون ويتكلمون على الفضائيات والاذاعات من ان خمسين بالمائة من الشعب التونسي مازالوا لم يدركوا بَعْدُ حقيقة الثورة وما يمكن ان تؤول اليه الامور. ولكن هذا الشعب حضر منذ الصباح وحتى المساء وانتفض حبا للصناديق وتخمر تصويتا لتونس ومنح صوته لدم الشهيد من اجل جمهورية ثانية ديمقراطيتها زرقاء والشاهد عليها دماء الشهداء فاظهر هذا الشعب التونسي الابي بذلك على عكس نخبه السياسية انه لم يكن مثلما يدعي هؤلاء الزعماء بخيلا في يوم من الايام وانه حين يتعلق الامر بتونس وعزتها واستحقاقاتها ينهض باكرا ويصطف في الطوابير البشرية متحديا شمس اكتوبر الحارقة من اجل لحظة زرقاء هرم من اجلها واستحقت منه طلاء اصبعه بحنة 14 جانفي حتى تكون شاهدة على ولائه لهذه الربوع التي اهدت العالم انبل شهداء الحرية والانعتاق والكرامة. بالفعل هذا قليل من جميل شعب تونس عظيم صنع ثورة معجزة قبل ان يتركها ويختفي في الزحام لتركب عليها اطياف سياسية يمينية ويسارية ووسطية ومعتدلة ومتطرفة خرجت بعد 14 جانفي من جحور الصمت والمناشد والخنوع وهي ترتدي جبة الثورية والنضال وتتحدث باسم الفقراء والكادحين والمعطلين وتعد بالقطع مع ماضينا السياسي المرير وذلك قبل ان تعود الى اصلها وفصلها فاذا هي في اول فرصة تتاح لها للجلوس على كرسي الحكومة تذكرنا بحزم المخلوع وتهديده للشعب واذا بها ضد اعتصامات القصبة، وضد احتجاجات العمال وضد الاضرابات الشرعية وضد ارادة الشعب الذي لم يرد الفعل سريعا وتعاطى بعقلانية مع هذا المنطق الاستبدادي الجديد وانتظر تاريخ 23 اكتوبر ليعيد ملحمة 14 جانفي ويسقط عدد من تلك الاطياف في رسالة بليغة منه مفادها ان الثورة التونسية هي ثورة مازالت سارية المفعول ومازالت تنبض بالحياة وان كل من ستسول له نفسه من المنتصرين يوم 23 اكتوبر استغباء الشعب ومصادرة حقوقه وحرياته وعدم التزامه بتعهداته الانتخابية لن يكون حاله افضل من المخلوع، لان زمن الانكسار الاجتماعي بالخصوص قد ولى وانتهى والتونسي الذي قدم نفسه قربانا من اجل حقه في العمل ومن اجل حرياته واهمها حرية الرأي والتعبير والمعتقد لن يسمح لاي سياسي مهما كانت عباءته السياسية ان يمنعه هذه الحقوق. اليوم اذن نطق الشعب التونسي ومارس اختياره في مشهد سيادي قلّ نظيره وما على الاحزاب التي لم تنجح ولم تفز بثقة الشعب في هذا الاستحقاق الا ان تصمت وتعكف على بناء شخصيتها السياسية من جديد وفق استراتيجية جديدة تستجيب لخصوصية المجتمع التونسي بما فيها من تمذهب وانفتاح. ان افدح اخطاء جماعة الحداثة وليس الحداثيين في القطب الذي جمعهم اخر لحظة وهذا ايضا من الاخطاء التي لا تغتفر في هذه الانتخابات الدرس والمرجع والنموذج هي وقوع هذه الجماعة في فخ الخطاب السياسي المفخخ والملغم بالعداء لكل ماهو ديني متناسين ان المجتمع التونسي يظل شئنا ام أبيْنا مجتمعا عربيا اسلاميا في ظاهره واعماقه وان هذا المجتمع قد يحترف السياسة ويتقنون نفاقها وقد ينفتح على الجميع ولكنه في النهاية لن يتنكر لحزبه الوحيد وهو الكتاب المقدس ولا يسمح لاي كان فردا او حزبا او جماعة ان ينال من هذا الكتاب وهذا ما لم يفهمه الحداثيون والتقدميون الذين ارادوا كسب الانتخابات من باب تقزيم النص الديني فإذا بهم يسقطون بنفس هذا النص الذين اعتبروه في اخر ايام الحملة الانتخابية معرقلا لتطور المجتمع وتقدمه مقدمين بديلهم الحداثوي التقدمي الذي لم افهم منه شيئا سوى حق الآخر باسم حرية الفكر والتعبير في تجسيد الذات الالهية وهذا خط من الخطوط الحمراء التي جعلت السكير رقم واحد في تونس يتعاطف مع القائمات الاسلامية ويحسم امره بالتصويت لها وفي هذه الحالة تكون الحداثة التي البسها الحداثيون لباسا غير لباسها قد ادت دورها معكوسا وضربت انصارها بنيران صديقة واضعفت حضورهم في المجلس التأسيسي مثلهم مثل عديد الحركات والاحزاب الاخرى التي فشلت فشلا ذريعا وفي مقدمتها اليسار الراديكالي والقوميون باستثناء الناصريين الذين قد يحْصُلون على مقاعد لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة وذلك بعد ان استعصى توحد القوم تماما مثلا البعثيين الذين لم يتغير خطابهم ما قبل وما بعد 14 جانفي وظل غارقا في الخصوصية القطرية العراقية التي جعلت صدام حسين يعوض شهداء ثورتنا المجيدة! وفي خضمّ هذا الفشل الذريع لفطاحلة السياسة الذين اوهمونا بانهم في طريق مفتوح لكسب ثقة الشعب وخاضوا بذلك الانتخابات وكسبوا نتائجها قبل اجراءها مما سيحولهم بمنطق الديمقراطية الى اقلية معارضة فان الاخلاق السياسية في المقابل تستدعي منا ان لانقلل من اهمية فوز النهضة والمؤتمر والتكتل والبقية بصفتهم احزابًا وحركات تونسية لحما ودما جاء بها الشعب ومطالبون اليوم جميعا بمساعدتها وذلك قبل محاسبتها في نهاية الامر نفس هذه الاخلاق السياسية تستدعي منا ايضا ان نتوقف باكبار شديد عند القائمات المستقلة التي راهنت على ما في جرابها من فكر ووطنية وسياسة سقط جميعها بالضربة القاضية امام جبروت المال السياسي وعلوش العيد وكسكروت التن والسجائر الفاخرة وخلاص فواتير الماء والكهرباء والتكفل بمصاريف ختان مئات الاطفال وتزويج العانسات والعزاب مع التكفل بتوفير وسائل نقل عصرية مهمتها ضمان نقل الناخبين وعودتهم الى مقر سكناهم!! ان شعب تونس العظيم الذي قدم يوم 23 اكتوبر درسا جديدا في قدسية الانتماء إلى الوطن لن يقبل في كل الحالات بديمقراطية تقوم على ثنائية سياسية بغيضة شعارها اضطهاد الاكثرية للاقلية او تهميش دور هذه الاخيرة التي عليها في المقابل ان تقبل بدورها الجديد وان تتقن فن المراقبة وعرقلة كل المشاريع التي قد تفوح منها رائحة الالتفاف على استحقاقات ثورتنا المجيدة وفي مقدمتها الحريات والحق في التشغيل وضمان تنمية عادلة بين الجهات، استحقاقات ستجعل هذه الاقلية مسنودة في حال بروز اي خلل في المنظومة السياسية داخل المجلس التأسيسي من قبل عامة الشعب وذلك منعا لعودة الدكتاتورية من باب الشرعية والاستبداد من باب الديمقراطية، هذه الديمقراطية التي نتمنى جميعا ان تبرز اولى بوادرها لحظة صياغة دستور البلاد التونسية دستور كل التونسيات والتونسيين بلا حبر اغلبي او اكثري يؤسس للاستبداد باسم الفوز الساحق في الانتخابات وغيرها من العناوين لان العنوان الابرز لن يفلح احد في تغييره والتاريخ سيظل يذكر ان تونس وليس السياسيين هي من خطت في احدها الازرق ان شعبها العظيم هو شعب لا يقهر.