يوافق يوم الخامس من اكتوبر من كل سنة الاحتفاء ب (يوم اقر من قِبَلِ المنتظم الاممي سنة 1994)، وهو يوم يحق للمربين ان يكرموا فيه اعترافا لهم بعظم الرسالة التربوية التي ينهضون بها. وفي هذا الاطار تجدر الاشارة الى اهمية ايلاء المربين المكانة التي يستحقون اذا أردنا اليوم النجاح في بناء مجتمع متكافئ ومتضامن انه لمن الثابت اليوم ان تقدم الشعوب والامم يّقاس شرطًا بالتوفق في بناء الشخصية الانسانية المتكاملة وخلقيا وعقلانيا، لا سيما في ظل واقع حضاري يتسم بحركية القيم المتأرجحة بين النزعة الفرداني? المغلقة والعمياء وحرص الرسالة التربوية بابعادها المعرفية والاخلاقية والبيداغوجية على الارتقاء بشخصية الفرد للانفتاح على القيم الكونية المشتركة بين افراد الاسرة البشرية اي قيم الحرية، الكرامة، المساواة والعدالة بما هي قيم تنويرية وحداثية تعطي للمؤسسة التربوية الدور الاهم في بناء شخصية الفرد وفي رسم ملامح الفضاء العمومي بما يتلاءم مع ايلاء المربي المكانة التي تليق بمقامه ودوره تحديدا في سياق نحت معالم النموذج الاجتماعي الذي يربي الفرد على خصال نكران الذات، الاستقلالية، المشاركة واحترام الآخرين. ان اللحظة الراهنة للمجتمع التونسي لحظة فارقة من حيث التراكم النضالي على الصعيد الاجتماعي وتعدد الرهانات الفكرية والحضارية التي من شأنها ان تساهم في التأسيس لمجتمع مدني فاعل محليا وكونيا من خلال التربية على قيم المواطنة وحقوق الانسان بما هي مبادئ موجهة إلى الرسالة التربوية رسالة تستهدف الانسان مبدأ وغاية وذلك انطلاقا من القناعة الاخلاقية الكونية «بأن لا شيء يعادل في القيمة قيمة الكرامة البشرية». واذا كان الاحتفاء ب يعترف علنيا وأمميا بالدور الريادي للمؤسسة التربوية في تقدم الشعوب فان هذا الدور لا يستقيم شأنه الا اذا أشع المربي عليها وعلى الكيان الاجتماعي، وهو أمر يستدعي بالضرورة الاقرار بأن ثروة الأمم وهي استعارة لعنوان مؤلف لأدام سميث تكمن في أبنائها. وفي هذا السياق فان ثروة الشعب التونسي في اللحظة الراهنة تكمن اساسا في المراهنة على «الرأسمال البشري» الذي تتبوأ فيه المدرسة (بكامل مراحلها من السنوات الاولى للطفولة الى التعلم مدى الحياة) والمربي المكانة الجوهرية. وتبعا لما ت?دم فان واجب الاضطلاع بالمسؤولية التربوية تنظيما وهيكلة، تصورا وممارسة للمحتويات المعرفية والبيداغوجية يحتم: إقرار المجموعة الوطنية بأهمية المدرسة باعتباره فضاءً عمومياً يتعالى على المصالح الفئوية والتجاذبات الايديولوجية مهما كانت منابتها ومصادرها وخلفياتها، وهذا يفرض ضرورة الالتزام بحماية المدرسة دستوريا ووقايتها من كل التوظيفات الايديولوجية والمذهبية وكل هذا حماية للمصلحة الوطنية العليا. ان قدرة المدرسة على الوفاء برسالتها كاملة مرهونة بمدى تحقق ما تقوم عليه كل مؤسسة تربوية من شروط الحياد الكلي والقاطع، وهو حياد تجب حمايته قانونيا اضافة الى الحماية الاخلاقية. واذا كان الامر على خلاف ذلك سوف تكون المدرسة عرضة ?لانحرافات الخطيرة التي تنصرف بها عن غاياتها التربوية والحضارية. لا مندوحة من الاقرار بأن مسعى النهوض بالمدرسة اليوم يقتضي أولا التوقف «عند ما لا يجب ان يتواصل في المنظومة التربوية»، وثانيا العمل بشكل حثيث ومسؤول من اجل ترسيخ المدرسة الحداثية التي تتفاعل ايجابيا مع التطور التاريخي للنظام الاجتماعي وتستفيد من مكاسب الحضارة الكونية تقنيا وأداتيا في علاقة بالوسائل والاستراتيجيات التعليمية. أما ما لا يجب ان يتواصل فيمكن حصره في النقاط التالية: ٭ التهميش الخطير لدور المدرسة العمومية والذي يتخذ أشكالا مختلفة مثل التضحية بالتكوين على حساب النجاح الكمي، وتدعيم التعليم الخاص على حساب التعليم العمومي، والميل الى تعميم «ثقافة السوق والبضاعة» على المجال التربوي. ٭ إفراغ دور المربي وحضوره بتحويله الى مجرد أداة لتنفيذ القرارات الارتجالية والعشوائية. ٭ افتعال صراعات جانبية بين مكونات المؤسسة التعليمية أو المنظومة التربوية من شأنها إفساد العلاقات التكاملية والوظيفية بين مختلف عناصر الاسرة التربوية (التشجيع على الدروس الخصوصية تشويه صورة المربي لدى الاولياء، تهميش دور المدرسة في الرقي الاجتماعي...). ٭ تكليف لجان لاعداد البرامج والوسائل البيداغوجية وفق اعتبارات بيروقراطية تخلو من الموضوعية والكفاءة في الغالب، وتخضع إلى الارتجالية، الأهواء والمصالح الضيقة (الولاء والمحسوبية). اما في المقام الثاني فان المبادرة بتجاوز كل هذه المعوّقات لا يمكن ان يكتب له النجاح ما لم تستند المنظومة التربوية في رؤيتها المستقبلية للمدرسة على المنظورات والمبادئ التالية: أولا: في علاقة بالموارد البشرية وجب الاقرار بمشقة المهنة كمعطى أولي للشروع في التأسيس لقانون أساسي من شأنه انصاف المربي رمزيا وماديا. ثانيا: الاقرار بأن النهوض بالمدرسة مسؤولية وطنية عليا تٌلقى على عائق الجميع دون ان يكون لطرف ما امتياز احتكارها وتوظيفها. ثالثا: العمل على تجديد الممارسة التربوية تصورا وابداعا بما يتلاءم والتطورات العلمية والتقنية والبيداغوجية والحقوقية على الصعيد الكوني للتجارب الفاعلة والناجحة. إن كل ما تقدم ليس في الحقيقة الا اشارة أولية الى المبادئ العامة تصورا ومراهنة على مدرسة من شأنها ان تحمل كل مربٍّ واجب الاضطلاع بالمسؤولية التربوية والحضارية كاملة واجب يتبوأ فيه المربي المكانة التي هو جدير بها اصلا، وكل ذلك من اجل ضمان الحق في التعليم الجيد والفاعل ضمن المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية.