مشروعنا الإصلاحي بناء حضاري شامل متكامل الجوانب والأبعاد قمرت (وات) توجه الرئيس زين العابدين بن علي بخطاب الى المشاركين في الندوة الدولية التاسعة عشرة التي ينظمها التجمع الدستوري الديموقراطي يومي 2 و3 نوفمبر الجاري حول «الديموقراطية والتنمية في عالم متغير» وتولى القاء الخطاب نيابة عن سيادة الرئيس السيد محمد الغنوشي النائب الثاني لرئيس التجمع والوزير الاول وفي ما يلي النص الكامل لخطاب سيادة الرئيس: «بسم الله الرحمان الرحيم ايها السيدات والسادة يسعدني ان ارحب بكم جميعا في افتتاح اعمال هذه الندوة الدولية السنوية التي داب التجمع على تنظيمها في اطار احتفالات الشعب التونسي بذكرى تحول السابع من نوفمبر 1987. وهو لقاء نحرص دائما على ان يكون مناسبة للتفكير في القضايا المطروحة على الساحة الاقليمية والدولية وفرصة لتبادل الراي حول ابعادها وانعكاساتها. ويطيب لي بهذه المناسبة ان اتوجه بالتحية الحارة الى ضيوفنا الكرام من ممثلي الاحزاب الشقيقة والصديقة ومن الشخصيات السياسية والفكرية والاعلامية المرموقة شاكرا لهم جميعا تلبية دعوة التجمع الدستوري الديموقراطي مقدرا ما سيكون لهم من اسهام متميز في اثراء اعمال الندوة بحكم ما لهم من خبرة ودراية بالمسائل المعروضة عليها. ايها السيدات والسادة يميز ندوتكم هذا العام تزامنها مع احتفال التونسيين والتونسيات في الداخل والخارج بذكرى مرور عشرين سنة على التحول الذي اقدمنا عليه حبا لتونس وصونا لحرمتها وحماية لسيادة شعبها وانقاذا لمكاسبها وامجادها وحرصا على ان يكون مستقبلها في حجم طموحات ابنائها وتطلعاتهم. ومن هذه المنطلقات الوطنية انبثق مشروعنا الاصلاحي المتواصل الذي اردناه بناء حضاريا شاملا متكامل الجوانب والابعاد ينهض بالحاضر ويؤسس للمستقبل. وقد دابنا وما نزال على الاصغاء الى نبض شعبنا وتطلعاته متمسكين بثوابتنا الحضارية منخرطين في قيم الحداثة وانساق التقدم متفاعلين مع ما يشهده العالم من تغيرات مستبقين الاحداث والمستجدات حريصين دائما على ان تظل تونس واحة امان واستقرار وان تسهم بفاعلية في تعزيز السلم والاستقرار في العالم. وان ما سجلناه من نجاح خلال العقدين الماضيين سواء على صعيد البناء الديموقراطي ونشر حقوق الانسان وضمانها وتوسيع دائرتها او في مجال النهوض بالبنية الشاملة والمستديمة او في نطاق ارساء مجتمع المعرفة انما هو نابع من جوهر رؤيتنا للتنمية الشاملة ومن عمق ايماننا بان البناء الحضاري لا يكون الا بتلازم الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهو ما يعكسه واقع تونس اليوم بتكريس الديموقراطية والتعددية الحزبية وارساء دعائم حياة سياسية متطورة وتحسن مؤشرات التنمية في سائر القطاعات. وسجلت المؤشرات المتعلقة بالمرأة على صعيد الحياة النشيطة والحياة العامة ارتفاعا ملموسا يكرس مراهنتنا على المرأة باعتبارها عنصرا لازما لتحقيق الديموقراطية والتنمية. وقد نجحنا في تحقيق عدة مكاسب وانجازات رغم قلة الموارد والامكانيات وجسامة الرهانات وحجم التحديات بفضل سلامة خياراتنا وصواب توجهاتنا والتفاف الشعب حولها وانخراطه فيها. وسنواصل السير في هذا النهج بارادة راسخة وعزم متجدد لبلوغ ما رسمنا لبلادنا من افاق المناعة اوفياء لثوابتنا متدرجين في مسيرتنا الاصلاحية مواكبين لحركة التطور في العالم وللتحولات الحاصلة على صعيد الحضارة الكونية. وهي تحولات تقتضي بحكم حجمها وعمق تاثيرها في التنمية الوطنية والعالمية ان نواصل النظر في مختلف جوانبها وانعكاساتها. وفي هذا الاطار تتنزل الاهمية التي يكتسيها موضوع هذه الندوة. ايها السيدات والسادة لقد شهد عالمنا خلال العقدين الماضيين تحولات جذرية متسارعة وغير مسبوقة افرزت توازنات جديدة ومفاهيم وتحديات غير مالوفة. وهو ما يحتم التفكير في التاسيس لمقاربة جديدة للعلاقات الدولية ولوضع منظومة قواعد سلوك ومعاملات تتماشى مع هذه التحولات وتستجيب لهذه التحديات في كنف احترام سيادة الدول وحق شعوبها في الحرية والديموقراطية والتنمية دون تمييز او مفاضلة بينها. فعالم اليوم ليس عالم الامس ولا يمكن لمنظومة التعامل الدولي التي كانت معتمدة في السابق ان تواكب التحولات المستحدثة وتمكن المجموعة الدولية من رفع تحديات اليوم ورهانات المستقبل. وتعد مسالة الديموقراطية والتنمية في عالم متغير من ابرز القضايا المطروحة على الساحة الدولية لما يكتنفها من رهانات وتحديات مرتبطة بحاضر البشرية ومستقبلها. لذلك لابد من ان يكون التفكير فيها قائما على التلازم الوثيق بين الديموقراطية والتنمية سواء تعلق الامر بالمجال الوطني او بالواقع العالمي. ذلك ان الديموقراطية في اساسها نهج اصلاح وبناء ولا يمكن اختزالها في المجال السياسي فحسب ما دامت تعني سائر الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومثلما لا يمكن تحقيق التنمية في غياب ديموقراطية توفر للفعل التنموي شروط نجاحه وتضمن للمجتمعات اسباب التطور والتقدم فان الديموقراطية لا يمكن ان تنمو وتترسخ في غياب تنمية شاملة ومتوازنة تضمن للافراد حقوقهم وكرامتهم وللمجتمع امنه واستقراره ورقيه وازدهاره. لكن ما يشهده عالمنا اليوم من تفاوت كبير في الرخاء والنماء بين البلدان وما يعيشه من توتر وصراعات وحروب وما يحصل فيه من عنف وارهاب وما تعانيه العديد من المجتمعات من ويلات الفقر والمرض والامية فضلا عن النزاعات العرقية والقبلية المدمرة انما يؤكد ان طريق الديموقراطية والتنمية تظل محفوفة بالتحديات والعراقيل والصعوبات سواء على صعيد الواقع الداخلي لعديد البلدان او في مستوى الوضع العالمي والعلاقات الدولية. ايها السيدات والسادة ان قدر البلدان النامية ان تتحكم في مصيرها بنفسها وان تقتحم بنسق اسرع واعمق مجالات الرقي والتطور وتعول على ذاتها وتحسن التصرف في امكانياتها وتعتمد الديموقراطية منهجا للحكم من اجل حشد الطاقات وتعبئة القدرات وفتح مجالات ارحب للفعل والمشاركة. ولا يتحقق هذا الا بالمراهنة على الانسان والعناية بالتنمية البشرية والاقبال على اكتساب العلوم والمعارف المتطورة والتكنولوجيات المستحدثة. ونحن نغتنم انعقاد هذه الندوة لنؤكد مجددا ان لا سبيل الى استتباب الامن والسلم والاستقرار في العالم ولا مجال للقضاء على التطرف والعنف والارهاب في ظل اتساع الفجوة التنموية وتفاوت نسق التنمية بين البلدان وهو ما من شانه ان يعمق الفروق بين الشعوب ويزيد في مشاعر الخيبة والاحباط لدى العديد منها. ان توفير الامن والسلام ونشر الديموقراطية في العالم يقتضيان تامين الحق لجميع الدول في التنمية والتقدم وهو جوهر التنمية العالمية المتضامنة التي نادينا باقرارها في عديد المناسبات وجسمناها بدعوتنا الى انشاء صندوق عالمي للتضامن والقضاء على الفقر حظي بموافقة منظمة الاممالمتحدة ودعمها. ايها السيدات والسادة ان المجموعة البشرية في حاجة متاكدة الى تضاعف جهودها اليوم لتجسيم اهداف الالفية الثالثة للتنمية بما يفتح الامل امام الشعوب ويقطع الطريق على اسباب التطرف والكراهية وسائر النزعات الهدامة التي باتت تزعزع امن العالم واستقراره. ان المطروح على البشرية اليوم انما هو الاسراع بالانخراط في عقد شراكة حضارية شاملة كنا دعونا اليه في عديد المناسبات ادراكا منا بانه السبيل الافضل لخلق وعي عالمي جديد قوامه الشعور بمسؤولية الجميع ازاء الجميع وان التحديات القائمة والمخاطر المحدقة تهدد كل بلدان العالم دون استثناء. انه عقد شراكة تتاكد جدواه في ظل احتداد العولمة الاقتصادية وتفاقم انعكاساتها السلبية ولا سيما على البلدان الاقل نموا. فالعولمة التي قلصت المسافات وحولت العالم الى قرية كونية يجب ان تكون ايضا الوجه الجديد لعالم الشراكة والتضامن حتى تتساوى فيه الحظوظ ويتحقق فيه العدل والامن والاستقرار. فلا معنى لارتفاع معدلات النمو والتقدم في العالم اذا كان ذلك حكرا على البلدان المتقدمة ولا معنى لعولمة تكرس حرية تنقل البضائع والخدمات لكنها تغلق الحدود امام الانسان لاعتبارات امنية واستراتيجية ضيقة . ونجدد بهذه المناسبة ما كنا قد دعونا اليه سابقا بخصوص معالجة قضية الهجرة في اطار رؤية شاملة للشراكة والتنمية المتضامنة واقترحنا الاليات الكفيلة بتجسيمها منذ سنة 1993. كما لا يمكن الحديث عن تنمية عالمية مستدامة في ظل واقع بيئي عالمي مختل التوازن يحتاج الى المعالجة السريعة ضمانا لمستقبل الانسان وللحضارة البشرية. وتتنزل في هذا الاطار ايضا الفجوة الرقمية القائمة في عالم اليوم بحكم امتلاك البلدان المتقدمة دون غيرها لتكنولوجيات الاتصال الحديثة. لذلك دعونا الى الحد من تفاقم هذا الاخلال القائم في المجال من خلال التاسيس لتنمية رقمية عالمية متضامنة تتيح لجميع شعوب العالم الاستفادة منها واستثمارها في مشاريعها التنموية. ولئن نجحنا في تعميق هذا الوعي وتكريس هذا التوجه بمناسبة انعقاد القمة العالمية حول مجتمع المعلومات في مرحلتها الثانية التي احتضنتها بلادنا منذ سنتين فاننا ندعو مجددا الى تكثيف الجهود لوضع التوصيات والقرارات الصادرة عن هذه القمة العالمية التاريخية حيز التنفيذ من اجل تنمية عالمية شاملة ومتضامنة. ايها السيدات والسادة ان تونس التي تتمسك بالتنمية العالمية المتضامنة وبقيم الحرية والعدالة والديموقراطية لا تدخر جهدا خدمة لتلك القيم النبيلة سواء على صعيد علاقاتها الثنائية او داخل المؤسسات والمنظمات الدولية من اجل ترسيخها وتجذير اليات العمل بها لبناء عالم اكثر عدلا وتضامنا تتوفر فيه لكل الشعوب مقومات النماء والرفاه وتزول منه كل النزاعات الهدامة التي تنال من امن الشعوب وتهدد استقرارها وتمس من حقها في التنمية والتقدم. واننا ندعو الاحزاب السياسية وجميع المشاركين في هذه الندوة لتكثيف الجهود داخل بلدانهم وعلى صعيد علاقاتهم الاقليمية والدولية وسائر مجالات عملهم ونضالهم من اجل ان تكون التحديات القائمة او المرتقبة فرصا حافزة الى العمل على خدمة البشرية قاطبة وضمان التقارب والتفاهم والحوار بين الشعوب والدول كافة. واذ نتطلع الى ما ستسفر عنه هذه الندوة من تصورات ومقترحات بشان موضوع الديموقراطية والتنمية في العالم وما لهما من انعكاسات على حاضر الانسانية ومستقبلها فاني اتمني لكم اقامة طيبة بيننا والنجاح والتوفيق في اعمالكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
