توجه الرئيس زين العابدين بن علي إلى المشاركين في الندوة الدولية حول "الشباب وتحديات اليوم" التي ينظمها التجمع الدستوري الديمقراطي بمناسبة الاحتفال بالذكرى 23 للتحول بخطاب تولى إلقاءه نيابة عن سيادته السيد محمد الغنوشي نائب رئيس التجمع والوزير الأول صباح اليوم الثلاثاء في الجلسة الافتتاحية للندوة. وفي ما يلي النص الكامل لهذا الخطاب : "بسم الله الرحمان الرحيم، أيها السادة والسيدات، نفتتح اليوم أشغال الندوة الدولية التي دأب التجمع الدستوري الديمقراطي على تنظيمها بمناسبة الاحتفالات الوطنية بذكرى تحول السابع من نوفمبر 1987 وأتوجه بالتحية إلى ضيوفنا الكرام من ممثلي الأحزاب الشقيقة والصديقة والمنظمات السياسية الإقليمية والدولية والشخصيات الفكرية والإعلامية شاكرا لهم تلبية دعوة التجمع وإسهامهم في هذه التظاهرة التي نحرص على انعقادها كل عام.
إن هذه اللقاءات الفكرية والسياسية توفر فضاء مميزا لتدارس المسائل المطروحة على الصعيد الدولي وتبادل وجهات النظر حول التحولات العالمية وانعكاساتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية فتلك المسائل والتحولات تشكل اهتمامات محورية بالنسبة إلى الأحزاب السياسية نظرا إلى دورها ودور قادة الرأي والنخب فيها في بلورة الأفكار والتصورات بشأنها ورسم أفضل البدائل وطرح أنجع البرامج. وقد اخترنا لهذه الندوة الدولية موضوع الشباب وتحديات اليوم لتكون محطة متميزة في برامج احتفال بلادنا مع سائر بلدان العالم بالسنة الدولية للشباب برعاية منظمة الأممالمتحدة بعد أن أقرتها جلستها العامة بالإجماع تجاوبا مع مبادرتنا واقتناعا من الجميع بجدارة الشباب بأن يكون محور الاهتمام الدولي ومحور الرهان على المستقبل مستقبل السلم والتفاهم والتعاون والتضامن مستقبل الازدهار الدائم والرقي الشامل. وهي مبادرة تتكامل مع سائر مبادراتنا الدولية ولاسيما دعوتنا إلى إنشاء صندوق عالمي للتضامن والقضاء على الفقر. كما أنها تنبع من رويتنا للعلاقات الدولية وما يجب أن تقوم عليه من مبادئ واليات تكرس التنمية المتضامنة وتؤسس لعالم قوامه الحوار والاحترام المتبادل بين الشعوب والثقافات والحضارات والأديان. أيها السادة والسيدات، إن بناء عالم أكثر أمنا واستقرارا وأوفر عدلا ونماء بعيدا عن النزاعات والتطرف وشتى مظاهر التعصب والإرهاب يتوقف على مدى عنايتنا بالشباب وسهرنا على حسن تنشئته على القيم والمثل الكونية وإعداده أفضل إعداد ليكون في مستوى الآمال المعلقة عليه. وهي مسؤولية حضارية تتقاسمها جميع الدول والمجتمعات وسائر الهيئات والمنظمات العالمية المتخصصة من خلال دورها في تعميق الوعي بمنزلة الشباب وفي دعم الجهود للنهوض بأوضاعه والسعي إلى الإصغاء إليه وأخذ مشاغله وتطلعاته في الاعتبار. فلا بد من فتح المزيد من الآفاق أمام الشباب وتمكينه من اكتساب مقومات الفاعلية والاقتدار على مواجهة الصعوبات ورفع التحديات وهي مهمة بالغة الدقة ورهان مطروح على الجميع في سياق التحولات التكنولوجية والاقتصادية والمعرفية التي انعكست على أنماط السلوك وأساليب العيش وأشكال العلاقات الاجتماعية بما يؤثر حتما في نظرة الشباب إلى القيم والمفاهيم المعهودة ويبدل أشكال وعيهم وعلاقتهم بالمرجعيات الثقافية ويؤسس لواقع جديد لا بد من التعامل معه والتفاعل مع معطياته على الوجه الأمثل. إن حركة التاريخ لا تتوقف. وان أنساق التطور من مقتضيات التقدم وشروطه الحتمية ومن مقومات تواصل ارتقاء الإنسان من حالة إلى حالة عبر العصور والأزمان. ونحن نستحضر في الوقت ذاته المسؤولية الملقاة علينا لفهم هذه التحولات والتعاطي السليم معها والاستغلال الأفضل لما تتيحه لنا من فرص ولتجنب ما قد ينجر عنها من تأثيرات سلبية. إن اهتمامنا بمشاغل الشباب وتطلعاته وحرصنا على الحوار معه وتشريكه في الحياة العامة وفي رسم معالم المستقبل تعد من أقوم المسالك التي تساعدنا على التصدي لتلك التأثيرات وتفادى القطيعة بين الأجيال وعلى حفز الشباب إلى الاهتمام بشؤون وطنه وعالمه درءا لمخاطر الانزلاق إلى التعصب والكراهية والتطرف والإرهاب. ولا سبيل إلى رفع هذا التحدي إلا بمقاربة شاملة ومتكاملة في جوانبها التربوية والتثقيفية والإعلامية تمكن الشباب من مرجعية قيمية يسهم من موقعه في تصورها وإنتاجها، مرجعية تواكب حركة التقدم والتطور وتكرس الثوابت والمبادئ الإنسانية السامية مرجعية تحفز الشباب إلى تحقيق الذات بوعي ومسؤولية من خلال الفعل والانجاز ومن خلال النضال في سبيل القضايا النبيلة والمثل العليا. ومن واجب المدرسة وفضاءات الثقافة والإعلام في العالم مضاعفة الجهد لإعلاء قيم البذل والعطاء والتضحية والتطوع والتضامن وغرسها في نفوس الشباب. فلا شيء يهدد الشباب أكثر من الفراغ القيمي والشعور بانسداد الآفاق والضياع في عالم تغذى مقتضيات الأحداث فيه الإحساس بغياب العدل وسيطرة القوة وازدواج المعايير والمكاييل والمصالح الأنانية. إنها مسؤولية نتحملها إزاء الشباب الذي يظل في حاجة دائمة إلى القدوة المرجعية الصادقة والى واقع يكرس بالفعل ما ندعوه إليه من المبادئ والقيم. أيها السادة والسيدات، لقد غيرت الثورة الرقمية إيقاع حياة الإنسان ونقلته إلى طور متقدم من مساره الحضاري وفتحت أمامه آفاقا جديدة لا عهد له بها. كما مكنت تكنولوجيات الاتصال الحديثة من تقليص المسافات وإسقاط الحدود بين الناس وتحويل العالم إلى قرية متصلة الأطراف وأتاحت للإنسان سبلا جديدة للمعرفة وفرصا كبيرة للعمل والربح والاستثمار وكما لا حد له من المعلومات. وقد أفرزت أيضا تحديات ورهانات غير مسبوقة لا بد من الوعي بأبعادها وإحكام التفاعل معها حتى لا تتحول الثورة الرقمية من رهان تقدم وحداثة إلى مخاطر استلاب وتراجع وحتى تحقق الإضافة المنشودة إلى رصيد المكاسب والانجازات التي حققتها الحضارات الإنسانية عبر التاريخ. وإذ راهنا في بلادنا على بناء مجتمع المعرفة وحفزنا الشباب إلى الاندراج فيه وشجعناه على استعمال التكنولوجيات الحديثة للاتصال والتحكم فيها ولم ندخر أي جهد لنشرها وتعميمها ولاسيما في المؤسسات التربوية والجامعية وسائر الفضاءات الثقافية فقد حرصنا كذلك على أن يكون انخراط شبابنا في مجتمع المعرفة انخراطا واعيا رهانه الاستفادة القصوى من وسائل الاتصال المتطورة والتصرف الأمثل فيها بما يؤكد انتسابه إلى العصر وامتلاكه لأدواته مع الحفاظ على هويتنا الوطنية وعلى خصوصياتنا الحضارية. وإذ نذكر بالقرارات والتوصيات الصادرة عن القمة العالمية حول مجتمع المعلومات التي احتضنتها تونس سنة 2005 وما تلاها من اللقاءات الإقليمية والدولية، فإننا نؤكد ضرورة إيلاء الشباب في علاقته بالثورة الرقمية مزيد العناية والاهتمام وتنفيذ ما اقترح من برامج واليات لتحقيق العدالة بين شباب العالم في مجال استعمال التكنولوجيات الحديثة للاتصال والسيطرة عليها. كما نجدد الدعوة إلى الإسراع بردم الفجوة الرقمية التي ما تزال للأسف قائمة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة والى استغلال ما يوفره مجتمع المعرفة من الفرص والإمكانيات لتشغيل الشباب وخلق مواطن الرزق وتعزيز مقومات التنمية الشاملة. كما تظل مسألة الإحاطة التربوية بالشباب والرعاية القيمية له في مجال تعامله مع وسائل الاتصال الحديثة مسالة مصيرية لما يمكن أن يهدد الشباب في غياب هذه الإحاطة من مخاطر الانحراف السلوكي أو من مزالق التطرف والإرهاب. أيها السادة والسيدات، إن شباب اليوم هم صانعو القرار في المستقبل. ولابد من تعويدهم على تحمل المسؤولية والمشاركة في تصريف شؤون المجتمع. وإن ما يلاحظ من عزوف الشباب عن الاهتمام بالشأن العام ولاسيما عن المشاركة السياسية يجب أن يدفعنا إلى التفكير في هذه الظاهرة والوقوف على أسبابها والبحث عن الحلول الملائمة لها حتى يظل الشباب معنيا بالقضايا الوطنية والدولية منخرطا فيها مساهما في الحياة العامة مشاركا في العمل السياسي بما يتيحه من مجالات التحرك والتمرس بالسلوك الديمقراطي. وإن في مراهنتنا على الشباب وسعينا إلى أن يكون طرفا فاعلا في انجاز مشروعنا الإصلاحي وشريكا في كل ما يهم مسيرة البلاد ما يدفعنا باستمرار إلى تفعيل دوره والإصغاء إليه وتعويده على إبداء الرأي بشأن مختلف المسائل الوطنية من خلال الاستشارات الشبابية التي دأبنا على تنظيمها مرة كل خمس سنوات بالتوازي مع إعداد المخططات الخماسية للتنمية. وهو مسار توجناه بتنظيم سنة للحوار مع الشباب خلال عام 2008 انتهت إلى صياغة ميثاق وطني شبابي هو اليوم مرجع غير مسبوق لأجيالنا الجديدة. وحرصا منا على فسح مجالات المشاركة أمام الشباب ببلادنا شجعناه على النشاط ضمن هياكل المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات وحفزناه إلى العمل السياسي والى تحمل المسؤوليات من خلال عديد المبادرات والإجراءات ومن أبرزها التخفيض في سن ممارسة الحق الانتخابي إلى ثماني عشرة سنة والنزول بسن الترشح إلى مجلس النواب إلى ثلاث وعشرين سنة. ويظل بعث أول برلمان للشباب في تاريخ تونس يوم25 جويلية الماضي حدثا تاريخيا أردناه تكريسا لإيماننا بالشباب وبدوره في مسيرة البلاد وبضرورة منح الثقة للأجيال الجديدة وتهيئتهم لتحمل المسؤولية حتى نقيهم مخاطر الانعزال والتهميش والاغتراب وحتى لا يكونوا عرضة للاستقطاب والمغالطة والتغرير. هي مسؤولية يتحملها الجميع وفي طليعتهم الأحزاب السياسية المعنية قبل غيرها بتأطير المجتمع والإحاطة بمختلف فئاته ولاسيما الشباب. وقد كرسنا هذا التوجه على صعيد حزبنا التجمع الدستوري الديمقراطي من خلال دعم مكانة الشباب في صفوفه وهياكله في مختلف المستويات وأكدناه بعديد الإجراءات ومن أبرزها قرارنا في المؤتمر الأخير للتجمع ضم اثنين وستين شابا وشابة إلى تركيبة اللجنة المركزية للحزب. أيها السادة والسيدات، إن الشباب هو عنوان الأمل. وإذ يمثل الشباب في العالم اليوم ما يناهز خمس البشرية منهم 87 في البلدان النامية حسب إحصائيات منظمة الأممالمتحدة فان هذا الوضع يقتضي منا مقاربة أوضاعه بما يراعي أهمية وزنه الديمغرافي. كما يدعونا إلى الارتقاء به وفتح أرحب الآفاق أمامه مستحضرين دائما أن الشباب هو الحل متى أحسنا التفكير في شؤونه وتفاعلنا مع طموحاته وهيئناه ليتحمل مسؤولياته. وإننا نغتنم فرصة انعقاد هذه الندوة الدولية لنؤكد الأهمية الفائقة التي تكتسيها السنة الدولية للشباب حاثين على ضرورة استغلالها لتعميق الوعي بالمسالة الشبابية في العالم وما يكتنفها من رهانات وتحديات. كما ندعو إلى تكثيف اللقاءات والتظاهرات الشبابية في مختلف بلدان العالم للتعريف بالمبادئ التي تقوم عليها هذه المبادرة الأممية وبالأهداف المرسومة لها على أوسع نطاق. ونوصي في هذا المجال أيضا بإيلاء عناية خاصة بما تضمنه دليل السنة الدولية للشباب الصادر عن منظمة الأممالمتحدة من توجهات وكذلك بما انبثق من التوصيات عن المؤتمر العالمي للشباب المنعقد بالمكسيك في أواخر شهر أوت الماضي تحت شعار شباب الألفية القادمة. ولاشك أن هذه الندوة الدولية بمن يحضرها من الشخصيات السياسية والفكرية والإعلامية المرموقة ومن الشباب من تونس ومن خارجها ستتوصل إلى بلورة الكثير من الأفكار الجديدة والمقترحات العملية حول موضوع الشباب وتحديات اليوم. وإننا على يقين من أن نتائج أعمالكم ستشكل إضافة نوعية متميزة إلى الحيوية التي سيشهدها العالم على امتداد هذه السنة الدولية للشباب. وختاما أجدد الترحاب الحار بضيوفنا الكرام راجيا لهم إقامة طيبة بيننا ولأعمال هذه الندوة الدولية الثانية والعشرين للتجمع كل النجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.