تفيد التجاذبات الدائرة حول عملية التسوية بأن هذه الأخيرة باتت تقتصر على البحث في تحديد حدود الدولة الفلسطينية، السيادية والجغرافية، ما يشمل التقرير بمصير القدس والمستوطنات والحدود والجوانب الأمنية (الثنائية والإقليمية). ويستنتج من ذلك أن القوى الفاعلة في هذه العملية، وهي الولاياتالمتحدة )ودول الاتحاد الأوروبي(، تتوخّى انهاء الصراع العربي الإسرائيلي، بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع) ضمن توافق على تبادل أراضي(، على أن يلحق ذلك، انسحاب إسرائيل من الجولان السورية وما تبقى من أراض لبنانية محتلة، وبحسب عكيفا الدار لإسرائيل »أقل من سنة ونصف للتوصل إلى تسوية متفق عليها مع الفلسطينيين.. إذا لم يخرج الفلسطينيون عن طريق فياض في آب 2011، فإن الأسرة الدولية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، من المتوقع أن تعترف بالضفة وبشرقي القدس كأراضي دولة سيادية تحتلها دولة أجنبية« (»هآرتس« 29/3) بل إن دوري غولد) مستشار لنتنياهو) قدم صورة أوسع، مفادها أن »اوباما يؤمن بأنه بعد إقامة دولة فلسطينية.. فإن إدارته ستحدث تغييرا في علاقات الغرب مع العالم العربي والإسلامي..ما شهده نتنياهو في واشنطن لم يكن مشكلة أمريكية إسرائيلية.. بل بداية تغيير استراتيجي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. التوترات في علاقات إسرائيل الولاياتالمتحدة جزءا من تغيير عالمي أوسع« »إسرائيل اليوم«(2/4). طبعا ثمة ملاحظات على التجاذبات الدائرة بشأن عملية التسوية، دون التقليل من أهمية تحجيم إسرائيل، ولو على مستوى إنهاء احتلالها للضفة والقطاع، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولة لهم، في هذه الظروف الصعبة والمعقدة. الملاحظة الأولى، أن الصراع حول عملية التسوية إنما يجري عمليا بين إسرائيل من جهة والإدارة الأمريكية (ومعها دول الاتحاد الأوروبي) من جهة مقابلة، أي بمعزل عن النظام العربي، الغائب الأكبر عن التفاعلات الجارية في إقليمه، إن لضعف فاعليته أو لتشتت) وربما تعارض) إرادات الوحدات المتشكّلة منه. ملاحظة ثانية، مفادها أن الفلسطينيين لاحول لهم ولا قوة في التجاذبات الدائرة حاليا، بعد أن خمدت الانتفاضة والمقاومة) في الضفة وغزة)، وبعد أن أخفق خيار المفاوضات، وبحكم حال الاختلاف والاحتراب والانقسام الحاصلة. الملاحظة الثالثة، أن التسوية التي تتم على أساس تفاوضي، وفي إطار موازين قوى مختلة لصالح إسرائيل، ومعطيات إقليمية ودولية غير مواتية للفلسطينيين، معنية فقط بإقامة دولة فلسطينية. أما الاعتقاد بأن هذه التسوية يمكن أن تجلب دولة وحق العودة، في آن معا، فينطوي على سذاجة، الأمر الذي تتم التعمية عليه، والمخاتلة فيه. والدليل أن الحديث يجري عن »حل عادل ومتوافق عليه لقضية اللاجئين«، وطالما أن إسرائيل ترفض حق العودة، فالموجود فقط رزمة بدائل، تضمنتها مقترحات كلينتون (2001)، في مقاربة لمخاوف إسرائيل الديمغرافية، وتأكيدا على يهوديتها، وفي محاولة للتعويض السياسي والمعنوي للفلسطينيين. الملاحظة الرابعة، وتتمثل في أن القوى الدولية المعنية تنطلق في سعيها إلى حث عملية التسوية، في هذه المرحلة، من مصالحها الآنية أساسا) دون إغفال عوامل قيمية وأخلاقية أخرى(، بمعنى أن مقاربتها للتسوية ليست ناجمة عن إدراكها لضرورة إحقاق حقوق الفلسطينيين وتعويضهم عن المظالم التي لحقت بهم، بسبب قيام إسرائيل وتشريدها لهم (1948)، وسيطرتها على كامل أرضهم (1967)، وتحكّمها بأحوالهم وتنكليها بهم حتى الآن. واضح أن كل ذلك يضعف مضامين التسوية، ويحرمها من عنصري الحقيقة والعدالة) تعبير للراحل ادوارد سعيد(، اللازمين لمحو مظالم الماضي وتحقيق نوع من الاعتراف والتكافؤ، ولو كان نسبيّا، إزاء المستقبل. بدليل أن القوى الدولية المعنية تدافع عن إصرار إسرائيل، التي تدعي الحداثة والعلمانية، على الاعتراف بها »دولة يهودية«، رغم ادّعاءاتها بمحاربة التطرف الديني! وأن هذه القوى لاتبدي ممانعة إزاء سعي إسرائيل إلى فرض روايتها الدينية لتاريخ المنطقة، على الشعب الفلسطيني، لإخراجه من الزمان والمكان، وتبرير وجودها. كذلك فإن هذه القوى تتحسب لاعتبارات إسرائيل الأمنية، وطمعها في توسيع حدودها على حساب الدولة الفلسطينية، بمعزل عن قرارات الشرعية الدولية التي تفتي بعدم جواز ذلك لدولة محتلة! كل ما تقدم يؤكد أن المصالح هي التي دفعت الولاياتالمتحدة (ومعها أوروبا) لحث عملية التسوية، والضغط على إسرائيل، لاسيما مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وفي مواجهة الملف النووي الإيراني، ومع الخشية من التداعيات السلبية التي يمكن أن تنجم عن ذلك، على مصالح ومكانة كل من الولاياتالمتحدة وأصدقائها في المنطقة، لاسيما مع تنامي نفوذ الإسلام السياسي المقاتل، وتزايد حركية الجماعات الإرهابية المتطرفة. وبحسب المحلل الإسرائيلي حاييم آسا فإن الولاياتالمتحدة، ترى »الصراع الأمريكي في العراق وأفغانستان هو أيضا صراع في سبيل وجود إسرائيل.. التوابيت التي تعيد جثث جنود المارينز هي الثمن الباهظ الذي تدفعه الولاياتالمتحدة..إذا خرجت الأزمة..عن السيطرة..فإن إسرائيل ستصبح مشكلة في نظر المصلحة الأمريكية..لن يكون للأمريكيين مفر غير تغيير مكانة إسرائيل من ناحية الولاياتالمتحدة« »معاريف« (1/4). الآن، بالنسبة إلى إسرائيل، فإنها على ما يبدو لن تصمد طويلا، في عناد السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، وعلى الأرجح فإنها تعد مقاربتها الخاصة بهذا الشأن، ولنتذكر أن نتنياهو مع بناء دولة فلسطينية من تحت إلى فوق (وهو تقريبا ذات برنامج السلطة)، وأن شارون، الذي كان معارضا لقيام دولة فلسطينية، ذهب نحو هذا الخيار وأنشأ حزب »كاديما«، وأن حزب إسرائيل بيتنا (الشريك الثاني في الائتلاف وثالث اكبر حزب في إسرائيل) مع تبادل أراضي) حتى من ضمن إسرائيل (مع الفلسطينيين، وأن الأب الروحي لحزب شاس (للمتدينين الشرقيين) الحاخام عوفاديا يوسيف كان »أفتى« بجواز التسوية باعتبار أن »النفس أهم من الأرض«. وربما كان الغرض من الممانعة الإسرائيلية الآن يتمثل بسعي إسرائيل إلى تحقيق عديد المكاسب، من ضمنها تحجيم حدود الدولة الفلسطينية) الجغرافية والسيادية) ما أمكن، ولاسيما بشأن القدس، وتأكيد روايتها ووضعها دولةً يهوديّة، والحفاظ على مكانتها حليفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة في المنطقة، والتأكد من وقوف الدول الكبرى معها في السعي إلى تحجيم طموحات إيران النووية، فلكل شيء ثمن. ولنتذكر بأن »الدولة الفلسطينية« قائمة الآن، بشكلها الراهن، وهي بالتأكيد غير الدولة المتخيّلة التي تحدثها عنها البرنامج المرحلي في زمن سابق وفي أوضاع سابقة. ويبدو أن المطلوب الآن، فقط، قرارات من طراز انكفاء القوات الإسرائيلية خلف الجدار الفاصل، وتحويل مناطق ج إلى ب وب إلى أ) ما يحل مشكلة الاستيطان والحدود والقدس(، وتسهيل حياة الفلسطينيين، وتركهم لتدبّر أوضاعهم، وليس أكثر. هكذا يمكن القول، ومع هذا التحول الدولي، بأن تاريخ المنطقة، أو تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، بات عند عتبة معينة، ولكن اجتياز هذه العتبة يحتاج، بشكل أكبر، إلى تفعيل النظام العربي، وإلى وضع فلسطيني أفضل، وإلى ذلك الحين فإن شكل التسوية ستتحكم به التجاذبات والمعايير الأمريكية والإسرائيلية، فحسب.أما من يريد تغيير هذه المعادلة المجحفة فعليه أن يقوم بذلك لا بالأقوال فقط وإنما بالاستعدادات اللازمة وبالأفعال أيضا.