لم يكن لقاء نيويورك الذي جمع نتنياهو بمحمود عباس بدعوة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما، مجرد مناسبة للمصافحة، بقدر ما كان بمثابة مناسبة لتدشين مرحلة جديدة من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المستمرة منذ ستة عشر عاما. وعلى رغم أن الإدارة الأمريكية لاتبدو كمن يستعد للتلويح بإجراءات ضغط على إسرائيل لحملها على تسهيل العملية التفاوضية، أقله من منطلق تجميد الاستيطان، إلا أنها تبدو مصممة على دفع هذه العملية، وعدم تضييع الوقت في مجادلات جانبية. والأهم من ذلك يبدو أن إدارة أوباما تحاول الانتقال من دهاليز التسوية الانتقالية إلى التفاوض على قضايا الحل النهائي، وأيضا عقد نوع من تسوية شاملة، تتيح تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، وهذا هو معنى كلام اوباما عن أن "الولاياتالمتحدة ملتزمة سلاما عادلا ودائما وشاملا في الشرق الأوسط". وما ينبغي الانتباه إليه هنا أن إدارة أوباما تتميز عن سابقاتها بإدراكها أهمية حل الصراع العربي الإسرائيلي، لمعالجة مختلف أزمات المنطقة؛ وهذا ما عبر عنه الرئيس أوباما مرارا، باعتباره أن ذلك يشكل مصلحة لأمريكا ولإسرائيل. وميزة هذه الإدارة أنها، أيضا، تضم مجموعة منسجمة في التعاطي مع هذا الملف، ويمكن معاينة ذلك من مشاركة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية، وجيمس جونز مستشار الأمن القومي، وجورج ميتشيل المبعوث الرئاسي للشرق الأوسط، في الاجتماع الذي عقده اوباما مع كل من نتنياهو وعباس. كذلك فإن هذه الإدارة تمتلك إرادة المثابرة على متابعة مختلف الأطراف، وحثهم على الجلوس على طاولة المفاوضات، ومساعدتهم في التوصل إلى توافقات معينة في القضايا الخلافية، وهو مايتمثل في متابعة ميتشيل لجولاته ولقاءاته مع الطرفين المعنيين، وانخراط وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بهذا الجهد، وحرص الرئيس أوباما على الإعلان عن صيغة جديدة للتسوية، يجري العمل على إخراجها للعلن في الفترة القريبة القادمة. وبحسب التسريبات فإن صيغة هذه التسوية المبنية على خطوط عامة، تتأسس على قيام دولة للفلسطينيين، بمساحة كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، في نطاق من تبادل الأراضي (لتجاوز معضلة المستوطنات)، مع التوافق على حلول معينة لقضيتي اللاجئين والقدس، على أن يؤجل تنفيذها لمرحلة لاحقة. هكذا فإن هذه الصيغة، أو "البضاعة"، هي الوحيدة الموجودة حاليا في سوق التداول في المفاوضات، ومن الصعب إنتاج توافقات أخرى، أو أفضل حالا للفلسطينيين، في ظل موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية السائدة، وغياب الضغط الأمريكي إزاء إسرائيل، وفي ظل المعطيات الحالية للمفاوضات. وعلى الأرجح فإن المشكلة في هذه الصيغة أو البضاعة ليست في الطرف الفلسطيني، وإنما هي في الطرف الإسرائيلي، الذي يحاول تخفيض التوقعات من التسوية، وانتزاع أكبر قدر من المكتسبات لصالحه، لاسيما أنه يدرك ضعف الوضع الفلسطيني، بخلافاته وانقساماته وارتهانه الكامل لعملية التسوية. وبشكل أكثر تحديدا فإن مفتاح العملية بالنسبة للإسرائيليين يتمثل بكيفية تبليع الفلسطينيين فكرة شطب حق العودة للاجئين، أما مفتاح العملية بالنسبة للطرف الفلسطيني المفاوض فيتمثل بإقامة دولة فلسطينية في كامل الأراضي التي احتلت عام 1967، ووضع حد لمحاولات إسرائيل قضم المزيد من هذه الأراضي بالاستيطان والطرق الالتفافية والجدار الفاصل. بهذا المعنى فإن الطرفين يدركان أن الصيغة النهائية للتسوية باتت تتعلق بإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967، أي إقامة دولتين لشعبين، بحيث يقرر كل شعب مصيره في دولته الخاصة، مع تبعات ذلك، وإنهاء كل طرف لمطالبه من الطرف الأخر، وضمان أمن إسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية معها. ولعل ما يجري اليوم هو نوع من الضغط المتبادل في الوقت الضائع، أو قبيل لحظة الحسم، حيث يحاول كل طرف انتزاع اكبر قدر من المكاسب من الطرف الأخر. فإسرائيل تشهر سلاح الاستيطان والقدرة على تغيير الواقع في الضفة باعتبار ذلك وسيلتها لليّ ذراع الفلسطينيين، وإجبارهم على تليين موقفهم بشأن القدسالشرقية، والكتل الاستيطانية، وخصوصا بشأن شطب حق العودة أو الموافقة على إيجاد حل لهذه القضية خارج إسرائيل. ومن جهتهم فإن الفلسطينيين يحاولون التمسك بحق العودة للاجئين، وبرفض تطبيع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، كنوع من الضغط عليها في موضوع الحدود الجغرافية والسيادية للدولة الفلسطينية المقترحة. ويمكن تقريب هذه الصورة الإشكالية بما أورده المحلل الإسرائيلي بن كسبيت عن نتنياهو حين سأله عما إذا كان مستعدا للانسحاب إلى الخط الأخضر في حال وافق أبو مازن على "الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية وتخلّى عن حق العودة، وأعلن نهاية النزاع..حيث أجاب "فليضعني قيد الاختبار"، ثم استدرك: "لكن لماذا العودة إلى خطوط 1967؟ هناك امكانيات أخرى". (بن كاسبيت، "معاريف" 16/9) وكان نتيناهو اعترف بحقيقة أن"البلاد مقسمة..وأن المسألة هي بأي شكل ستوزع؟..يوجد واقع قائم بالنسبة لمليون ونصف فلسطيني يعيشون في لب الوطن اليهودي. علينا أن نبحث عن حل حقيقي للتعايش معهم..نحن لا نريد أن يكونوا مواطنين ولا رعايا لنا". ("إسرائيل اليوم"، 16/9) ومعلوم أن الفلسطينيين كانوا، من البداية، انخرطوا في المفاوضات بدون الاستناد لمرجعيات دولية، ودون تحديد المآل النهائي منها، ودون تعريف مكانة إسرائيل كدولة محتلة.