ما أعلنه الرئيس محمود عباس مؤخّرا (من على شاشة الفضائية الفلسطينية الرسمية)، بشأن التدهور المريع في عملية التسوية، يستمد أهميته من أوجه متعددة، فهذه كانت إحدى لحظات المصارحة، والمكاشفة، التي ذهب إليها أبو مازن في السنوات الأخيرة؛ وإن متأخرا. وكان أبو مازن سبح عكس التيار السائد عندما حذّر من انفلاش الانتفاضة، وعسكرتها، ومن خروجها عن حدودها؛ ما دفع ثمنه، وقتها، باستقالته من رئاسة الحكومة (2003)، وبتوتّر العلاقة بينه وبين رفيق دربه الرئيس ياسر عرفات. كما سبق له أن ترشّح للانتخابات الرئاسية (2005) وفق برنامج يقطع مع كل أشكال المقاومة، ويركز على المفاوضة وحدها. وللتذكير فقط فإن أبو مازن فاز حينها بالرئاسة، على أساس هذا البرنامج، بأغلبية قدرها 483 ألف صوت ( 62بالمئة من أصوات الناخبين)، في نسبة مشاركة قدرت ب 70 بالمئة من المسجلين في القيد الانتخابي في حينه، بالمقابل فقد حصلت قائمة حركة »حماس« في الانتخابات التشريعية (لعام2006 ) على مايقارب 441 ألف صوت ويا للمفارقة! ما يهم في الخطاب المذكور أن أبو مازن أقر، وبشكل واضح، بإخفاق طريق المفاوضات، حتى في جلب دولة في الضفة والقطاع المحتلين، فضلا عن اعترافه بأن المراهنة على الضغط الأمريكي لم تكن في محلها. بل أن أبو مازن، في هذه المرة، أطاح بكل التوهمات التي سيقت لتبرير اتفاق أوسلو، وتحميل الكيان الناشئ عنه ما لايحتمل؛ وهي توهمات أسهم فيها الرئيس ذاته. وفوق كل ذلك فقد ذهب أبو مازن حد التلويح بقلب الطاولة، من خلال حلّ السلطة، والذهاب إلى البيت، ما يضع حدا للاحتلال المريح، بعد أن بات »الاحتلال الإسرائيلي أرخص احتلال في التاريخ«، على حد قوله. من ذلك يمكن الاستنتاج بأن أبو مازن، في تصريحاته العلنية هذه، يقطع مع النهج الذي سار عليه منذ زمن طويل، والذي توّجه باتفاق أوسلو (1993)؛ لكن المشكلة بهذه التصريحات، على أهميتها، أنها ليست كافية، ولا تقدم شيئا، على صعيد استنهاض حال الشعب الفلسطيني، في مواجهة سياسات إسرائيل. القصد هنا أن أبو مازن ليس شخصا عاديا يقول رأيه ويذهب إلى البيت، فهو يتحمل مسؤولية أيضا عن خيار المفاوضة، وعن الطريقة التي أدير بها، وهو المسؤول، أيضا، عن الكيانية السياسية للفلسطينيين، وعن إدارتها، فهو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس السلطة، وقائد حركة »فتح«، كبرى المنظمات الفلسطينية، وهي الحركة المسؤولة عن الخيارات والسياسات التي تتحكم بالساحة الفلسطينية منذ أربعة عقود من الزمن. على ذلك ليس من المقبول من أبو مازن، ولا من القيادات الفلسطينية (على اختلافها)، مجرد إعلان إخفاق هذا الخيار السياسي أو ذاك، لأن المطلوب أكثر من ذلك. ففي خيار المفاوضة، مثلا، مطلوب من القيادة المسؤولة عن هذا الخيار تقديم كشف حساب للشعب الفلسطيني عن الأوهام التي تم ترويجها، وعن السياسات التي تم اعتمادها في هذا المسار. ومثلا، فإن هذه القيادة مسؤولة عن تهميش وتغييب منظمة التحرير (الكيان السياسي الجامع للشعب الفلسطيني)، وعن تحويل الحركة الفلسطينية من ثقافة هيكلة حركة تحرر وطني إلى ثقافة وهيكلة سلطة، وعن شطب ثلثي الشعب الفلسطيني من المعادلات التفاوضية؛ باختزال قضية فلسطين بمجرد دويلة في الضفة والقطاع، كما بتغييب البعد الشعبي في المعادلات السياسية. ومعلوم أن هذه القيادة، في غمرة حماسها لاتفاق أوسلو (1993)، لم تأخذ في انتهاجها الطريق التفاوضي موازين القوى بينها وبين إسرائيل، ولم تول اهتماما مناسبا لطريقة عمل النظام السياسي الإسرائيلي، وأيدلوجيته وحساباته، ولم تنتبه لعمق العلاقة الأمريكية الإسرائيلية؛ وكأنها استندت فقط على مزاجها ورغباتها! وبالمثل يمكن أن يقال، أيضا، عن خيار انتهاج نمط العمليات التفجيرية في مناطق 48، بدلا من اعتماد نهج المقاومة المسلحة في الأراضي المحتلة عام 1967، إذ أن تلك العمليات حمّلت الفلسطينيين في الضفة والقطاع فوق طاقتهم، وأدخلتهم في مواجهات استنزفت قدراتهم، بفترة بسيطة (قرابة عامين بين 2002 و2003 )، حيث لم يعد بعدها لاعمليات تفجيرية، ولا عمليات مقاومة مسلحة، ولا حتى أي شكل من أشكال الانتفاضة الشعبية، هذا فضلا عن إنها أسهمت في دفع إسرائيل نحو بناء الجدار الفاصل، وإقامة مئات الحواجز الفاصلة بين التجمعات الفلسطينية في الضفة، وفرض الحصار المشدد على قطاع غزة (2006). وفي حسابات الحركات الوطنية الحية والديمقراطية (كما في حسابات الدول الديمقراطية) فإن كل واحدة من الأخطاء المذكورة تؤدي إلى تغيير القيادة، وإلى البحث عن خيارات أخرى بديلة، وإلى معاودة بناء الحركة الوطنية، لكن الأمور في الساحة الفلسطينية ليست كذلك، بسبب ضعف المؤسسات الشرعية، وبواقع غياب العلاقات الديمقراطية، والتدخلات الدولية والإقليمية، وأيضا بحكم الارتهان للمساعدات الخارجية. عدا عن ذلك فإنه ليس مقبولا من الرئيس الفلسطيني أبو مازن، ولا غيره من القيادات المختلفة، مجرد الذهاب إلى البيت، أو مجرد حلّ السلطة، وإنما المطلوب منها أكثر من ذلك، أي مطلوب منها استنباط الدروس من التجربة السابقة، وتهيئة الأوضاع لخيارات بديلة. وفي الحقيقة فإن أبو مازن يتحدث عن خيارات كثيرة (ضمنها حل السلطة)، ولكنه لم يعمل شيئا لإعداد شعبه لأية خطة بديلة، فالشعب الفلسطيني في واد وقيادته في واد آخر، ويكفي أن نصف الشعب الفلسطيني (في الخارج) لا يعرف أية صلة له لا بالسلطة ولا بالمنظمة (التي غيبت تماما)، وحال الفصائل (بما فيها حركة »فتح«) ، لاتسمح بانتهاج خيارات بديلة، بحكم ارتهانها للسلطة، إن عبر تحويل المناضلين إلى موظفين، في الأجهزة المدنية والأمنية، أو عبر منح الطبقة القيادية الامتيازات في وظائف السلطة (على تراتبيتها) وعموما فإن الوضع الفلسطيني في غاية الصعوبة، فثمة خلاف بين اكبر حركتين سياسيتين (فتح وحماس)، وثمة انقسام بين الضفة وغزة، والفلسطينيون في الأراضي المحتلة يقعون تحت السيطرة المباشرة وغير المباشرة لإسرائيل. على ذلك، ومع أهمية قطع الوهم حول عملية التسوية الجارية، فإن الأهم من كل ذلك وضع الساحة الفلسطينية على سكة إعادة البناء من جديد، لا مجرد الاكتفاء بذلك، إن من قبيل الحرد، أو بداعي الابتزاز. وما ينبغي أن يدركه الفلسطينيون أن هذه المرحلة ربما تكون جد صعبة ومعقدة، وانه مطلوب منهم فعلا إعادة ترتيب أوضاعهم، فليس الزمن زمن مفاوضات، ولازمن اطلاق مقاومة مسلحة، أو حتى انتفاضة جديدة، فكل ذلك يتطلب شروطا ذاتية وموضوعية غير متوفرة اليوم (لا عربيا ولا دوليا). لكن ذلك لايعني أنه ليس لدى الفلسطينيين مايفعلونه، فثمة الكثير، مما ينبغي عليهم فعله (سوى الحرد أو حلّ السلطة)، ويأتي ضمن ذلك إعادة بناء مجالهم الوطني (المجتمعي والسياسي)، وإعادة الاعتبار لحركتهم الوطنية كحركة تحرر وطني، وإيجاد نوع من التمييز بين هذه الحركة والسلطة، والتأسيس لثقافة وطنية تحررية وديمقراطية؛ وهذا ليس بالشيء القليل بالنسبة لحركة وطنية تواجه مشروعا نقيضا كمثل المشروع الصهيوني.