منذ رحيل أبو عمار (2004) شهدت الساحة الفلسطينية تحولات سياسية نوعية على غاية في الأهمية، تؤسّس لمرحلة جديدة في الحركة الوطنية الفلسطينية، ونظامها السياسي. ففي أواخر عام 2005 انسحبت إسرائيل، بشكل أحادي من قطاع غزة، في ما اعتبر أول سابقة من نوعها بالنسبة للأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وكنتيجة لنضال الفلسطينيين، وكفاحهم الطويل والمرير. وفي مطلع عام 2006 صعدت حركة حماس إلى سدّة الحكومة والسلطة، إثر فوزها بغالبية مقاعد المجلس التشريعي الثاني، ما أشّر إلى تراجع مكانة حركة فتح، في المجتمع الفلسطيني، وفي السلطة والقيادة والمرجعية. وفي منتصف عام 2007 قامت هذه الحركة بالهيمنة الأحادية على قطاع غزة (بوسائل القوة)، معززة دورها في إدارة العمل الفلسطيني، وفي تحديد خياراته وتحالفاته السياسية والعسكرية. لكن هذه الأحداث المؤسّسة، على أهميتهما، لم تعتبر مؤشّرا كافيا على تغيّر المعطيات السياسية والموازين الداخلية، وعلى أن العمل الفلسطيني دخل مرحلة جديدة، بكل معنى الكلمة، على مستوى المرجعيات والخطابات وأشكال العمل. وبمعنى أخر يبدو أن الساحة الفلسطينية كانت بحاجة إلى معركة «كرامة» ثانية، أو إلى صدمة كبيرة، على قدر الحرب الوحشية التي شنّتها إسرائيل، ضد قطاع غزة، لاختبار حماس، و»تطويب» دورها في القيادة؛ تماما مثلما حصل بعد معركة الكرامة (1968)، التي جلبت «فتح» إلى قيادة العمل الفلسطيني ومنظمة التحرير ذلك أن الشرعية القيادية في الساحة الفلسطينية لا تتأتّى من صناديق الانتخابات، أو من سلامة الخطابات، بقدر ما تتأتى من مجال الصراع ضد إسرائيل. وإذا كانت قيادة حركة فتح تعاملت بطريقة غير جدية، وغير مناسبة، مع التحديات التي طرحت عليها، بعد صعود حركة حماس، كمنافس لها، وبالخصوص بعد خسارتها الانتخابات، ثم بعد تهميشها في قطاع غزة، فإن هذه القيادة، برغم كل ما قامت به، لم تستطع إقناع الفلسطينيين بأنها قامت بما يمكن القيام به، كقيادة، في مرحلة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي استمر 22 يوما. والواقع فإن هذه الحرب هي الأولى، من نوعها بعد غياب ياسر عرفات، لذا فثمة سؤال ربما راود كثيرين، ماذا لو كان أبو عمار..؟ وعلى الأرجح فإن أبا عمار، بكاريزميته ودهائه السياسي، كان سيتصرف بشكل أخر، وبحيوية أكثر من أبي مازن (من دون التقليل من جهوده) فالرئيس الراحل كان يرى في نفسه زعيما لكل الشعب الفلسطيني (شاء من شاء وأبى من أبى!)، وهو لم يترك معركة إلا ودخل معمعانها، ولم يترك جهدا فلسطينيا إلا وحاول استثماره، ولا لحظة سياسية إلا التقطها وربما أن ياسر عرفات، منذ اللحظات الأولى للحرب، كان سيقف في مقر المقاطعة مخاطبا شعبه أن «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين».. و» يا جبل ما يهزك ريح»، وربما يقود المظاهرات أو يشعلها في مدن الضفة وقراها؛ من دون أن تفلت الأمور من يديه، وإن فلتت فهو يعرف كيف يستثمرها، في خطاباته التوحيدية والرمزية. بل أكثر من ذلك فليس غريبا على أبو عمار أن يحمل نفسه بطريقة أو بأخرى، إن أمكن ذلك، للذهاب إلى غزة، رغم الخلاف مع حماس، ليفرض واقعا فلسطينيا جديدا في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، أو أن يعمد لإطلاق إيحاءات لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال، مثلا، باسم كتائب الشهيد خليل الوزير أو صلاح خلف؛ كما فعل بإطلاق كتائب «شهداء الأقصى»، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية (2000). وعلى الأرجح فإن أبو عمار كان سيمسك بهذه اللحظات التاريخية، والملحمية، للذهاب نحو عقد مصالحة مع حماس، وجلبها لتوافقات وطنية، ولن يتحرج أبدا من اللقاء مع خالد مشعل أو مع غيره من قيادة الحركة، كما أن أبو عمار لن يترك مقعد فلسطين شاغرا في مؤتمر الدوحة، بل سيحاول أن يستفيد من هذا المنبر لتعزيز دوره وشرعيته وزعامته، وكي يظهر «أبوته « للعمل الفلسطيني. هكذا فثمة فوارق كبيرة بين الأبوين: أبو عمار وأبو مازن، فالأول كان يعمل كزعيم والثاني يعمل كمدير مؤسسة والأول قائد جماهيري من النوع الكاريزمي، والثاني يفتقد للحميمية مع الجماهير، وتعوزه الكاريزما. الأول ثعلب سياسي، غامض وملتبس ويلعب فوق الطاولة وتحتها، والثاني، شفاف وواضح ويلعب فوق الطاولة فقط. وفي حين يحبذ الأول الولاءات الشخصية ويجنح نحو صنع التكتلات حوله، ينبذ الثاني الولاءات والتكتلات والمحسوبيات؛ فهو لم يعرف عنه في تاريخه تزعم جماعة أو كتلة، من موقعه كعضو لجنة مركزية في حركة فتح .الأول قاد شعبه إلى طريق التسوية (بل وأقنع معظمه بها) فهو صاحب أوسلو، وكل الصيغ الأخرى التي طرحت مع إسرائيليين باسم أبو مازن بيلين أو اتفاقية جنيف وغيرها وغيرها، ومع ذلك كان يترك الباب مفتوحا على مصراعيه لمعمودية الدم والنار والكفاح المسلح، أما الثاني فأميل لانتهاج طريق المفاوضات وفقط، بل إنه كان خاض الانتخابات على هذا الأساس، وصوت له حوالي 63 بالمئة من الفلسطينيين. طبعا هذه ليست مقارنة للمفاضلة، وإنما للتمعّن، فأبو عمار، برغم كل ما يحسب لصالحة، كموحد وكرمز للشعب الفلسطيني، وكصانع لنظامه السياسي، مسؤول، أيضا، عن ترهّل حركة فتح، وتهميش المنظمة، وعن اتفاق اوسلو المجحف، وبالمقابل يحسب لأبي مازن (حتى من قبل خصومه السياسيين)، وضوحه السياسي، وأنه حجّم الفساد، ووضع حدا لنفوذ وفوضى الأجهزة الأمنية، وكرّس طريق الانتخابات، برغم معرفته بتراجع مكانة فتح بعد رحيل قائدها ياسر عرفات. كما يحسب له خصوصا أنه لم يستدرج للاقتتال الداخلي ضد حماس، بعد سيطرتها على غزة؛ بل إنه كان قاوم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية الرامية لإخراج حركتي حماس والجهاد من النظام السياسي وحرمانهما من المشاركة في الانتخابات وقتها. إن تفحّص سيرة أبو مازن في القيادة والرئاسة، طوال السنوات الأربع الماضية، تبيّن بأن طريق هذا الرجل لم تكن سهلة، بل إنها كانت محفوفة بالمصاعب والإشكاليات والقيودات الداخلية والخارجية؛ خصوصا أنه وجد نفسه في مواجهة تركة جد ثقيلة، وبالغة التعقيد، بعد رحيل سلفه ورفيقه وقائده ياسر عرفات. وإشكالية أبو مازن هنا أن عرفات لم يكن مجرد قائد لفصيل أو رئيس لمنظمة أو لسلطة، بل إنه كان طوال ما يقارب أربعة عقود بمثابة زعيمٍ للشعب الفلسطيني وبديهي أنه إذا كان بالإمكان الاستحواذ على المكانة الرسمية للرئيس الراحل فثمة صعوبة كبيرة بإمكان الاستحواذ على المكانة الشعبية، أو على شرعية الزعامة، التي كان يحظى بها أبو عمار. في كل الأحوال فإن ما بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ليس كما قبلها، لا على صعيد حركة فتح، ولا على صعيد الحركة الوطنية الفلسطينية ونظامها وتحالفاتها وخياراتها السياسية. وكما يقال فإن «التاريخ يمهل ولا يهمل»، وعلى ما تفعله أو لا تفعله قيادة فتح ستتحدّد قضايا كثيرة.