لم تصل الساحة الفلسطينية إلى ماوصلت إليه، من فوضى وانقسام وعطب، بمحض الصدفة، فقد كان لذلك مقدمات كثيرة، يقف في صلبها معضلات تكوّن بني هذه الساحة في الخارج، وطرق عملها غير المدروسة، وابتعادها عن العلاقات الديمقراطية والمؤسسية، وغياب المراجعة والنقد والاجتهاد في داخلها، وثقل التوظيفات الدولية والإقليمية، وضعف قواها الذاتية في مواجهتها عدوها. لذلك فإن هذه الساحة، بوضعها هذا، أخفقت في المهام التي أخذتها على عاتقها، فهي لم تفلح في بناء حركة وطنية فاعلة وحيوية، وهذا ينطبق على حال الفصائل، ببناها المتكلسة وعلاقاتها الأبوية والزبائنية وتخلف أداءها وضعف التفكير السياسي فيها، كما لم تنجح ببناء كيان سياسي معنوي (المنظمة) أو (مادي (السلطة)، إذ نقلت التجربة الفصائلية إلى هذه الكيانات، دون أن تتجاوز ذلك إلى خلق كيانات ذات بني قانونية ومؤسسية، تعددية وديمقراطية. وبالنسبة للخيارات التي أخذتها هذه الساحة على عاتقها فمآلاتها لم تكن أحسن حالا، فخيار المقاومة المسلحة، بشكلها المنفلش والفوضوي، في الخارج لم يحقق شيئا يذكر، بقدر ما أنتج مخاسر للشعب الفلسطيني وقضيته في عديد من المجالات. أما خيار التسوية، فلم يكن الأمر أفضل من سابقة، لأن العمل به تم بذات الشروط والبني والعلاقات، ومن دون إجراء مراجعة تمهيدية للتجربة السابقة، والتمهيد للتجربة الجديدة. أما في تجربة الانتفاضة، التي اندلعت في العام ,2000 فقد كان الأمر على غاية الخطورة، ما كان له أكبر الأثر في وصول الساحة الفلسطينية، بقضيتها وحركتها الوطنية إلى ما وصلت إليه. وبديهي أننا هنا نميز تجربة الانتفاضة الأولى( 1987 1993( من هذا السياق، ذلك أن تلك الانتفاضة كانت وليدة التجربة الفلسطينية في الداخل، بكل معنى الكلمة، دون أن يقلل ذلك من كونها امتداد طبيعي للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، ولذلك فهي حققت نجاحات كبيرة على أكثر من مستوى. أما بالنسبة للانتفاضة المعاصرة، فقد طبّعت بطابع العمل الفصائلي، بخطاباته وأشكال عمله وعلاقاته، لذلك فإن مصيرها ترتهن بالأداء الفصائلي بكل ما له وعليه. وفي الواقع فإن انتفاضة العام 2000 (إذا صحت تسميتها كذلك تجاوزا) مثلها مثل كل المسارات والمراحل السياسية الفلسطينية لم تكن مرحلة مدروسة، وإنما كانت مجرد ردة فعل على انكشاف الموقف الإسرائيلي في مفاوضات كامب ديفيد ( تموز /يوليو 2000( إزاء عملية التسوية، وتعبيرا عن محاولة القيادة الفلسطينية مراجعة المسار التفاوضي، عبر تعزيز وضعها على الأرض، عبر صوغ معادلة سياسية جديدة تتمثل بالمزاوجة بين المفاوضة والضغط بالانتفاضة. لكن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر (كما يقال)، ذلك أن القيادة الفلسطينية، لم تنجح في ذلك، لعديد من الأسباب، أهمها: أولا، ارتهانها لاستحقاقات السلطة، المقيدة بمعاهدات اتفاق أوسلو. حيث يتعذر على هذه القيادة أن تذهب بعيدا في الانتفاضة، عبر إتاحة آليات أو ديناميات وإطارات خاصة لها، أو أن تكشف تماما عن إدارتها لها، ما أوقعها في التخبط، وكشفها أمام إسرائيل وأحرج موقفها أمام الأطراف الدوليين المعنيين بعملية التسوية. وما فاقم من ذلك انتهاج مجموعات من فتح خط تطعيم الانتفاضة بالمقاومة المسلحة ضد الإسرائيليين من عسكريين ومستوطنين في الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع، واتجاهها فيما بعد نحو العمليات التفجيرية أيضا في المدن الإسرائيلية؛ من دون أن يكون ذلك الأمر مدروسا أو محسوب العواقب. ثانيا، عدم قدرة هذه القيادة على الإمساك بزمام الوضع في الميدان، بحكم انفلاش البنى التنظيمية في حركة فتح، وغلبة العلاقات الأبوية والزبائنية فيها على حساب العلاقات السياسية والتراتبية التنظيمية، وبروز مراكز قوى في الأجهزة الأمنية. هكذا خرجت فعاليات الانتفاضة عن السيطرة، وخضعت لمزاجيات القادة الميدانيين، على تشتتهم وتضارب خطاباتهم. وهكذا مثلا، استدرجت جماعات فتح المسلحة (وضمنها كتائب الأقصى والعودة وغيرهما) نحو مربع العمليات التفجيرية، بدلا من أن تعمم هي نهجها في حصر عمليات المقاومة المسلحة في الأراضي المحتلة، وبما يتناسب مع جغرافية الانتفاضة البشرية والسياسية (أهدافها). ثالثا: دخلت السلطة وحركة فتح الانتفاضة في محاولة منها لإعادة الاعتبار لوضعها كحركة تحرر، بعد أن نالت منها الشبهات بشأن تنازلاتها السياسية في العملية التفاوضية، وبشأن تبلور طبقة صاعدة فيها على خلفية الفساد السياسي والمسلكي، الناجم عن هيمنتها على السلطة، من دون مساءلة ولا محاسبة. رابعا: برغم أن قيادة فتح والسلطة أعادت إلى حد كبير الاعتبار لذاتها كحركة تحرر وطني، بعد رفض الاملاءات الإسرائيلية والأمريكية في مفاوضات كامب ديفيد,وسلوكها طريق الانتفاضة والمقاومة، إلا أن هذه القيادة لم تأخذ الأمور بيدها لإدارة فعاليات الانتفاضة بطريقة ناجعة، ولم تحسم أمرها بشأن فرض استراتيجية سياسية وعسكرية لها، بسبب تخلف أوضاعها، واهتراء بناها، وطريقتها المزاجية والفردية في العمل. خامسا: شكلت هذه الأوضاع،على الصعيدين الرسمي والشعبي، فرصة مناسبة لنهوض حركة حماس، كند أو كبديل لحركة فتح . وفي الواقع فقد نجحت حركة حماس طوال السنوات الماضية في إحراج قيادة فتح والسلطة، أمام شعبها، وإزاء استحقاقات العلاقات مع إسرائيل، وأمام التزاماتها الدولية. كما أنها استثمرت مناخات الانتفاضة لتعزيز وضعها، مقابل السلطة، عبر انتهاج العمليات التفجيرية، التي تشيع مناخا من الندية وما سمي تجاوزا اتوازن الرعبب، مع إسرائيل. والحقيقة فإن حركة حماس في تلك العمليات قدمت نفسها كقيادة أو كشرعية بديلة في الداخل والخارج، وأثبتت أنه بامكانها وضع فيتو على توجهات السلطة، في إدارة المفاوضة والانتفاضة والكيان. وقد تمكنت حماس من كل ذلك بفضل ردة الفعل الإسرائيلية التي أوقفت عملية التسوية، وأضعفت السلطة، وأثارت بممارساتها الوحشية والتدميرية الغرائز الانتقامية والعاطفية عند الفلسطينيين. كما ساعد حماس المعونات المالية التي أغدقت عليها من أطراف دولية، ومن جماعات الإسلام السياسي. كذلك فإن التوتر الدولي والإقليمي في الصراع على الشرق الأوسط أسهم بتقديم مشروع حماس بوصفه بديلا لمشروع فتح والسلطة. لهذه الأسباب فلشت الانتفاضة فيما بعد، وخرجت عن السيطرة، أو عن مسارات الاستثمار السياسي الممكن، وتحولت من حركة مقاومة شعبية، إلى حركة مقاومة لجماعات من المسلحين، أما برنامج الانتفاضة السياسي، فلم يعد مفهوما، فثمة من يريد المقاومة للضغط على إسرائيل وإجبارها على تنفيذ الاستحقاقات المترتبة عليها في عملية التسوية، وثمة من يريد منها الانتهاء من الاحتلال، من دون أية ارتباطات أو تسويات مع إسرائيل، وثمة من رأى فيها فرصة للتحرر من عملية التسوية برمتها، والذهاب في المقاومة نحو تحرير فلسطين والتخلص من المشروع الصهيوني. وأيضا ثمة من رأى أعمق وأشمل بكثير من ذلك وفق أجندات ما ورائية، وأبعد من سياسية. على ذلك فإن هذه الأوضاع أسهمت في الوصول إلى ما وصلت إليه الساحة الفلسطينية، بدءا من الفوضى، إلى الاقتتال الجانبي بين أكبر حركتين سياسيتين (فتح وحماس)، وصولا إلى الانقسام الجغرافي والسياسي الحاصل. هكذا فوت الفلسطينيون تثمير الانتفاضة والأخطر أنهم سهلوا على إسرائيل استثمارها. هكذا، مثلا، تحولت شحنة العنف الموجهة ضد إسرائيل، بالعمليات التفجيرية العشوائية والمزاجية، نحو الداخل، بعد أن اضطرت القوى المعنية للدخول في عملية هدنة أو تهدئة مع إسرائيل (!) لتوظيفات سياسية معينة، أو لتدارك النزيف الناجم عن ردة الفعل الإسرائيلية التدميرية، على عمليات المقاومة. وزيادة في التوضيح يمكن رسم خريطة للاستثمار الإسرائيلي للعمليات التفجيرية، طوال السنوات السابقة، مثلا. فبعد عملية مطعم سبارو في القدسالغربية 6)أوت2001،( قامت إسرائيل بحرمان الانتفاضة من مدينة القدس، عبر إنهاء وجود مؤسسة السلطة فيها، وإغلاق بيت الشرق، الذي كان بمثابة عاصمة للفلسطينيين، ومركز اتصالات لهم مع العالم، كما قامت بالحد من قدوم الفلسطينيين لهذه المدينة، وضمنها للمسجد الأقصى. واللافت أن العمليات ا لتفجيرية لم تتوقف، بعد العمليات الإرهابية التي ضربت في نيويورك وواشنطن (أيلول /سبتمبر 2001)، ما أدى إلى إثارة شبهة الإرهاب من حول عمليات المقاومة الفلسطينية. وبعد سلسلة التفجيرات في القدسالغربية وحيفا يومي 1 و 2 ديسمبر ,2002 قامت إسرائيل بعزل السلطة الفلسطينية، ومحاصرة رئيسها الراحل) ياسر عرفات) في رام الله. وبعد عملية نتانيا (أواخر شهر شباط فيفري 2002 ) قامت إسرائيل بمعاودة احتلال مناطق السلطة الفلسطينية، وبتقويض البنى التحتية فيها، وجردت حملة قتل واعتقالات واسعة، وهو ما نتج عنه استشهاد أكثر من300 فلسطيني، من ضمنهم 220 شهيدا في شهر آذار/ مارس، استشهد منهم خمسون يوم 8 مارس وحده. طبعا لم تكتف إسرائيل بكل ذلك، فعلى خلفية هذا الشكل من الصراع، قامت باتخاذ إجراءات على غاية الخطورة بالنسبة لمستقبل قضية فلسطين وشعبها، حيث شرعت ببناء جدار فاصل، يقطع أوصال الأراضي المحتلة، ما يحد من التواصل بين الفلسطينيين، ويضعف من تماسك الدولة الفلسطينية المفترضة، ويجعل إسرائيل في موقع السيطرة. وبعدها طرحت إسرائيل خطة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة ونفذته من دون أن يكون لذلك أية صلة بعملية التسوية وبالسلطة، وهي تعد حاليا لإيجاد منطقة فاصلة لتكريس عزل القطاع عن محيطه بدعوى قصف الصواريخ. هكذا فإن الفلسطينيين في صراعهم المرير والدامي مع الإسرائيليين أخفقوا في استثمار الانتفاضة، ولم يوفقوا في تأجيج التناقضات في صفوف عدوهم، على العكس من ذلك إذ أنهم أسهموا في توحيد المجتمع الإسرائيلي، ودفعه نحو اليمين، والأنكى أن التناقضات في صفوفهم هم اتسعت وأدت إلى الاقتتال، ومن ثم الانقسام. وعلى الصعيد الخارجي كاد الفلسطينيون أن يخسروا مكانة الضحية، ومكانة حركتهم كحركة تحرر وطني، خصوصا بعد خوضهم الصراع مع عدوهم بالصورايخ، وبالعمليات التفجيرية، وبعد أن شاهدهم العالم يتصارعون ويتقاتلون على السلطة، أو على مجرد دويلة في قطاع غزة.