التونسية (تونس) في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف ان هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الادارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. والمدهش أن هذا المنطق هو ما جرت ممارسته في السلع كذلك وليس في الأقاليم فقط، وفي الموارد بعموم وليس في الدول بخصوص. فالولاياتالمتحدة لم تتعامل في قضية البترول مع امتياز واحد أو منطقة واحدة، وإنما تعاملت مع البترول كسوق عالمية لكل شيء: من البحث إلى الإنتاج إلى النقل إلى التصنيع إلى التوزيع. بمعنى أن الولاياتالمتحدة لم تتعامل مع السعودية أو إيران أو فنزويلا كمواقع متفرقة، وإنما تعاملت مع البترول حيث كان، وذلك تغيير أساسي في الأسلوب الإمبراطورى، وبمقتضاه فإن الموارد بعد الأفكار وبعد الأقاليم أصبحت هي الأخرى كلية شاملة وجامعة. وفي تلك الفترة المثيرة من أوائل القرن العشرين وقبل الحرب العالمية الأولى، تبدت الصورة الإمبراطورية أمام أنظار المعنيين بها في الولاياتالمتحدة محددة وجلية ذلك أنه بعد زوال إمبراطورية أسبانيا والبرتغال وجدت الولاياتالمتحدة أمامها ثلاثة أنواع إمبراطورية. النوع الأول امبراطوريات قديمة متوسعة ومنتشرة، وقد بقيت منها اثنتان هما امبراطوريتا بريطانياوفرنسا. وكان باديا أن بريطانياوفرنسا هما ما يحسب له حساب فيما بقي من امبراطوريات أوروبية (بعد زوال اسبانيا والبرتغال). هناك نوع ثان من الإمبراطوريات الباقية فيه ثلاثة تسودها حالة قلق، سببه ما يصاحب تقدم العمر وحلول المرض، وهذه الإمبراطوريات الثلاث هي: الامبراطورية الروسية (أسرة رومانوف) والإمبراطورية النمساوية الهنغارية (أسرة هابسبورغ) وإمبراطورية الخلافة الإسلامية (آل عثمان). وهذه الإمبراطوريات الثلاث تشترك في خصائص متشابهة: الخاصية الأولى أنها جميعا تحت سيادة أسر مالكة شاخت ووهنت عزيمتها وترهلت إرادتها، وأسوأ من ذلك فقد تحلل أمراؤها الورثة بترف الحياة ونعومة العيش حتى تدنت الأحلام الكبرى إلى دسائس قصور وحكايات غرام ومطاردات لذة. وكان آخر قياصرة أسرة «رومانوف» (ألكسندر) ألعوبة في يد زوجته، في حين كانت القيصرة ذاتها لعبة في يد راهب أفاق (راسبوتين). وكان يقال أن أسرة هابسبورغ وسعت رقعة إمبراطوريتها في غرف النوع أكثر مما وسعت رقعتها في ميادين القتال، لأن أمراءها المرفهين كانوا يتزوجون من أميرات الممالك الأوروبية الصغيرة، ويتحول إرث الأميرات الى ولايات وأقاليم تنضم إلى الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، وانتهت إمبراطورية غرف النوم بمأساة، لأن ولي عهدها (رودولف) قتل نفسه منتحرا بسبب جميلة من عامة الناس لم يستطع أن يتزوجها! ولم تكن أسرة آل عثمان أفضل حالا، فقد كانت قصور السلاطين الأواخر للإمبراطورية مليئة بقصص الجواري والأغوات الذين يتلاعبون بالخلفاء وزوجاتهم وبالأمراء والقواد والوزراء. والخاصية الثانية في هذه الإمبراطوريات الثلاث أنها جميعا (على خلاف الحال في امبراطوريات بريطانياوفرنسا وحتى أسبانيا والبرتغال وهولندا) ليست امبراطوريات منتشرة، وإنما إمبراطوريات دارت حول نفسها وتمددت من داخل موقعها دوائر تتسع وتزداد اتساعا كلما وجدت فرصة. فالامبراطورية الروسية ضمت ما حولها في كل الاتجاهات، وكذلك فعلت الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، وكذلك أيضا فعلت الإمبراطورية العثمانية.وكان ذلك الوضع يصيب هذا النوع من الإمبراطوريات بعوارض تمس القلب مباشرة. وعلى سبيل المثال فإن الإمبراطورية البريطانية كانت تستطيع أن تواجه تمردا في الهند، أو ثورة في مصر، أو عصيانا في جنوب إفريقيا، لكن هذه المشاكل في الامبراطورية المتوسعة المنتشرة تظل هناك في مكانها بعيدة عن مركز امبراطوري أعلى يدير أزماته عن بعد، ويتعامل مع المشاكل دون عبء مباشر يضغط على قلبه وأعصابه. وعكس ذلك تماما بالنسبة لنوع الامبراطوريات الملتفة حول نفسها، ففيها وهي متصلة متمددة من حول المركز يكون أي تمرد أو ثورة أو عصيان حدثا واقعا في قلب الوطن الأصلي ذاته، مؤثرا على وحدته وبالتالي ضاغظا على أعصاب صانع القرار فيه، لأن أي اضطراب في الأمور يصل سريعا إلى علم الكافة محرضا، وناقلا للعدوى! وكان هناك نوع ثالث من الامبراطوريات أقرب ما يكون إلى مشاريع طموحة تتشكل، لأنها هذه اللحظة قوى طالعة محرومة وجائعة تفتحت شهيتها بأوسع من وسائلها، وانطلقت أحلامها وراء البحار الى بعيد. وكان هذا النوع في تلك الفترة الهامة من بدايات القرن العشرين يضم ثلاث امبراطوريات أو مشاريع امبراطورية: مشروع ألماني تمثله مطامع القيصر «ويلهلم الثاني» الذي عاد يحلم من جديد بالرايخ الألماني (أي وحدة الأمة الألمانية متمثلة في الناطقين بلغتها والمنتمين إلى ثقافتها) وكان حلم «ويلهلم» يستلهم الانتصار الهائل الذي أحرزه مستشار ألمانيا الحديدي «بسمارك» عندما حقق وحدة ألمانيا وقاد انتصارها على فرنسا في حرب السبعين، ثم دخل إلى قلب باريس يسقط عرش نابليون الثالث! وفي أوائل القرن العشرين بدا القيصر الألماني بتشجيع مستشاره «فون بليو» مندفعا بأقصى قوة في بناء أسطول بحري ينافس به الأسطول البريطاني، عارفا أن السيادة على البحار هي عماد الإمبراطورية، وكان تركيز «ويلهلم» الظاهر على تجهيز أسطول هائل من الغواصات، وبذلك فإن طموحه بدا واضحا، ومتجها إلى صدام مع بريطانيا. ومشروع امبراطوري ايطالي، ظاهره أن ايطاليا التي حققت وحدتها عادت تحلم بالزمن الروماني، وتجيل النظر في البحر الأبيض، وتسترجع نداء قيصر الشهير ب: «أنه بحرنا»، وكانت ايطاليا بالفعل قد عبرت واحتلت ليبيا، متوازية في ذلك مع خط السباق الإمبراطوري الأوروبي جنوب ذلك البحر، وذلك سباق جرت فيه بريطانيا إلى مصر وفرنسا الى تونس والجزائر والمغرب وفي الفجوة بين الاثنين هرعت ايطاليا إلى الشاطىء الافريقي وراحت تدور حول شرق القارة السوداء تبحث عن شواطىء جديدة تنزل عليها، وقد عثرت بالفعل على موقع قدم على القرن الافريقي وحوله. وأخيرا مشروع إمبراطوري ياباني، ومع أنه مشروع غير أوروبي، فقد شوهد من بعيد ملهوفا على التوسع، وعلى القضم والبلع، خصوصا بعد أن تمكن في معركة بورت آرثر (سنة 1905) من هزم الأسطول الروسي في المحيط الهادي وتحطيمه بالكامل. وبدا أن الصين مكشوفة أمام يابان جائعة أقبلت بهمة على عملية تصنيع هائلة تحتاج إلى مواد خام وفيرة وأسواق مستهلكة واسعة.