12 - تحويل الطّوارىء إلى ضرورات في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف ان هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الادارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. ظلت ضرورات التعامل مع اليابان والصين بالنسبة لأمريكا إشكالية معلقة من وقتها وطول القرن العشرين حتى حسمها الجنرال «دوغلاس ماك آرثر» القائد العام لقوات الحلفاء في آسيا بنظرية تنسب إليه حتى هذه اللحظة مؤداها: «أن الولاياتالمتحدة في آسيا تستطيع فقط أن تكون دولة بحر ولا يصح لها أن تنزل على البر الآسيوي وتخوض فيه إلى العمق، لأن ذلك يفرض عليها أعباء لا تقدر عليها وتضحيات لا داعي لها، لأن العمق الآسيوي بلا نهاية بالبشر والموارد وبالعقائد والأفكار. وبناء على ذلك فإن ما تستطيعه الولاياتالمتحدة وتقدر عليه بلا تكاليف تذكر أو تضحيات لا تحتمل هو التمركز على الجزر المقابلة لشواطئ آسيا، والتدخل عند اللّزوم بالأساطيل أو بالطائرات من قواعد تلك الجزر أو من حاملات الطائرات». وجاءت حرب فيتنام لتصدق على نظرية «ماك آرثر» وتؤكدها، ذلك أنه ما إن نزلت الجيوش الأمريكية ودخلت في عمق فيتنام حتى أصبحت فريسة مكشوفة تحت رحمة قوات «الفيت كونغ» وغاراتها المتواصلة على مؤخرة القوات وأجنابها، إلى أن اضطر الرئيس «نيكسون» للانسحاب من فيتنام بلا كبرياء أو كرامة!). وعلى أية حال فقد كان الرئيس الأمريكي الجديد تلك الأيام «تيودور روزفلت» مشغولا بالفعل في اتجاه إمبراطوري آخر ركز عليه اهتمامه حتى وهو نائب للرئيس «ماكينلي»، ذلك أنه بينما كان الرئيس يركز بصره على المحيط الهادي إلى شواطيء آسيا، كان نائبه «تيودور روزفلت» يمد بصره إلى الناحية الأخرى من المحيط الأطلسي نحو شواطيء أوروبا. وبالفعل كان «روزفلت» هو القوة الدافعة وراء قرار اتخذه الكونغرس الأمريكي بمناصرة ثورة استقلال كوبا عن أسبانيا، واعتبار هذه الثورة «مهمة مقدسة» و«ضرورة حتمية» لا تستطيع الولاياتالمتحدة أن تشيح البصر عنها أو تغلق آذانها عن استغاثة ثوارها ضد طغيان استعمار أسبانيا. وكان «تيودور روزفلت» صاحب قول مشهور ملخصه «إن الدولة المقتدرة هي التي تستطيع تحويل الطوارىء إلى ضرورات»، وكذلك تحول شعار مساندة الحرية في كوبا إلى قرار «حتمى» بإعلان الحرب على أسبانيا (الدولة المستعمرة لكوبا). وتمكن الأسطول الأمريكي من إنزال قواته إلى الجزيرة تحارب جنبا إلى جنب مع الثوار ضد جيش الاحتلال الأسبانى في ظل إعلان بأن قوات الرئيس الأمريكي «تيودور روزفلت» سوف تخرج من كوبا في نفس اللحظة التي تخرج منها قوات الملكة الاسبانية «ماريا كريستينا». وانتصرت الثورة الكوبية ووقّعت أسبانيا معاهدة اعتراف باستقلال كوبا وسحبت بالفعل قواتها من هناك لكن القوات الأمريكية المناصرة للحرية ! بقيت، ودعوى «روزفلت» «أن بقاء القوات ضروري لدعم الاستقرار، لأن الفوران المصاحب للاستقلال يمكن أن يزعزع الاستقلال الكوبي!». ومضى «تيودور روزفلت» بعدها يخلع آخر المواقع الباقية لأسيانيا وللبرتغال من أمريكا اللاتينية (في بورتوريكو وبنما وغيرها من المواقع في أمريكا الوسطى)، معتبرا أن جهود الإمبراطوريتين لاكتشاف أمريكا (شمالا وجنوبا) بعثة حضارية لكن بقاء الإمبراطوريتين بعد زمانهما تطفل استعماري وهمجية! وكذلك تقدمت الإمبراطورية الجديدة تأخذ الإمبراطوريات القديمة جاهزة بأصلها وفصلها على طريقة الكابتن «مورغان» حين يغير على سفن القراصنة المثقلة بغنائمها، («الجمل بما حمل» حسب التعبير العربي الشائع!). وعندما سئل الرئيس الأمريكي الذي يصادف وجوده في البيت الأبيض تلك السنوات الخطيرة من بدايات القرن العشرين وهو الرئيس «تيودور روزفلت» عما إذا كانت سياسة الولاياتالمتحدة هي بناء إمبراطورية، نفى الرجل وأنكر، وربما لم يكن في قصده أن يكذب حين قال: «إن البلد الذي قام على فضيلة الحرية، يصعب عليه أن يقع في خطيئة الإمبراطورية!». ذلك أن الطموح لا يعتبر مطالبه تزايدا، بل يعتبرها تكملة تلقائية لطبائع الأشياء. وبصرف النظر عن الإعتراف بالخطيئة أو إدّعاء البراءة، فإن كلمة الإمبراطورية ترددت صوتا عاليا وصدى مدويا في الكونغرس الأمريكي، وفي الإعلام الأمريكي (خصوصا صحف راندولف هيرست). وفي تلك الفترة من أوائل القرن العشرين ظهرت تيّارات فاعلة في الولاياتالمتحدة تتأمل وتدرس أحوال الإمبراطوريات الأوروبية المتصارعة، وتفكر فعلا في إرثها، وفي التأمل والدرس عنصران محددان: 1 عنصر عملي (اقتصادي وتنفيذي) هو نفس منطق الكابتن «مورغان» قرصان القراصنة الذي ينتظر العائدين بأكداس الغنائم بعد غاراتهم على السفن واحدة واحدة، ثم يستولي على ما فيها كله بضربة واحدة سريعة في حركتها ضامنة لغنائمها مقللة من خسائرها. 2 وعنصر ثقافي (تجريبي وطبيعي) لأن المهاجرين الذين أنشؤوا الولاياتالمتحدةالأمريكية لم يعرفوا في بداية التجربة عدوا يتمثل أمامهم على هيئة دولة بالذات تهددهم، وإنما عرفوا عدوا «بالعموم» و«بالنوع» يجسد الخطر أمامهم على هيئة جنس بشري سكن القارة قبلهم هو «الهنود الحمر»، وفي مواجهتهم لهذا الخطر، فإنهم واجهوه على المشاع، وتعاملوا معه بعموم (حتى وإن حاولوا خلال المواجهة تفريق القبائل واستغلال ضعف الزعماء واللّعب على تناقضاتهم القبلية والشخصية). أي أنهم عرفوا التهديد الكلي وتعاملوا معه، ولم يعرفوا التهديد الجزئي ولم يشغلوا أنفسهم كثيرا به. وعندما حان الوقت فإن الإمبراطورية الأمريكية لم تتصرف إزاء مواقع الطلب والطموح إزاء دولة بعد أخرى أو موقعا بعد موقع، وإنما كانت الإستراتيجية الأمريكية هي التصرف إزاء المجموع كله، أي مع الامبراطوريات المرغوب في إرثها كاملة شاملة (الوطن الأصلي والأقاليم والمستعمرات) مرة واحدة. والملاحظ أن نفس الشيء جرى في حالة المواجهة مع تيار القومية العربية ففي العالم العربي كانت الأقاليم والدول مجرّد بحث عن مداخل أو فجوات للاختراق والتطويق، وأما الاستراتيجية الأساسية فقد كان هدفها التيار في مجمله، والحركة في مجموعها. وعندما وقع الدخول الأمريكي الكبير في مصر منتصف السبعينات فإن الإمبراطورية الأمريكية كانت على وعي بأن مصر في حد ذاتها ليست الهدف، وإنما الباب الأوسع إلى الدائرة العربية بكاملها (من الخليج إلى المحيط!).