بعد أن قيل ما قيل في ذلك العلم الضخم الذي ركّز في تلك الربوة الأنيقة من روابي حديقة «البلفدير» ليسعني إلّا أن أبارك هذه المبادرة الوطنيّة التي أظهرت الأيام أنّ الشعب التونسي في أشدّ الحاجة ليذكّر كلّ يوم أو على الأقلّ في كلّ المناسبات أنّ تونس التي تجمعنا ونعيش على أرضها ونستنشق هواها ونشرب من ماءها ونَقْتُات من خيراتها يُرمز لها بذلك العلم الذي نلتفّ حوله في الأوقات الحرجة والصعبة التي يمر بها وطننا ونشعر بالنخوة والاعتزاز ونحن نبذل أرواحنا ودماءنا للدفاع عنه وصيانته و ردّ المعتدي الذي يستهدف أرضنا و قيمنا وكل مقوّماتنا. وهل يمكن أن ننسى ذلك العمل الإجرامي الذي أقدم عليه أحد المتطرّفين حيث فشل في تعويضه بخرقته السوداء بفضل بطلة من بطلات تونس الطالبة «خولة الرشيدي» التي أُحَيِّها لمواصلة تحديها يوم 7مارس 2017 في كليّة الآداب للظلامييّن ومسانديهم بشجاعتها التي سجّلت اسْمَها بالبُنْطِ الغليظ في تاريخ تونس. . ومن هذا المنطلق رأيت أنّه من السخافة أو من عدم الوطنيّة أن يساوم السياسيون خاصة في ثمن دفع مقابل أن يرفرف علم تونس عاليا شامخا على مرّ الزمن رغم كيد الكائدينالذين يكيدون لتونس من الداخل ومن الخارج إذ يكفي الطفل التونسي في المستقبل أن يزور ذلك المكان الذي انتصب فيه هذا العلم ليشعر بالعزّ والفخر بانتسابه لوطنه واستعداده لبذل أنفس ما يملك لصيانته والذود عنه. ثمّ كان يوم السبت الفارط حيث حضرتُ حفل تكريم المناضل المربّي الكشّاف الوزير شيخ مدينة تونس «زكاريّا مصطفى»وكان الحفل لطيفا واللقاء حميميا جمع قدماء «بناة الجمهوريّة» وتداول فيه على الكلمة نخبة من الذين رافقوا الأستاذ طيلة مسيرته النضاليّة والمهنيّة مبرزين خصال هذا الرجل الذي أعطى دون حساب أينما حلّ بأخلاق عاليّة و تفان في خدمة المصلحة العليا للوطن دون خلفيات و لا طموحات زائفة، وأنا أرجع هذه الخصال خاصة لتكوينه الكشفي نَبْعُ الوطنيّة الصادقة والتفاني في خدمة الغير.وكانت اللحظة الفارقة في هذا الحفل عندما أخد الكلمة نيابة عن الأسرة الكشفيّة القائد» محمّد الهادي بن حميدة باشا «الذي أبى إلّا أن يُضْفي على هذا اللقاء مِسْحة كشفيّة نضاليّة وطنيّة وذلك بأن افتتح مداخلته بنشيد كشفي معبّر وعميق المعاني تفاعل معه قدماء الكشفيّن المتعطّشين لمثل هذه الأجواء التي تذكّرهم بشبابهم فانطلقت حناجرهم تردّد معه: مَوْطِنِي مَوْطِنِي الجَلاَلُ والجَمَالُ والبَهَاءُ والسَنَاءُ في رُبَاكْ في رُبَاكْ هَلْ نَرَاكْ هَلْ نَرَاكْ سَالِمًا مُنَعَّمًا وغَانِمًا مُكَرَّمًا. هل نراك هل نراك سالما منعّما غانما مُظَفَّرًا الشَبَابُ لَنْ يَكِلْ عَزْمُهُ أَنْ يَسْتَقِلِ أُوْ يَبِدْ أَو يَبِيدْ يَسْتَقُونَ من الرَدَى لن يكونوا لِلْعِدَا كَالعَبِيدْ كَالعَبِيدْ لاَ نُرِيدْ لا نُرِيدْ ذُلُّنَا مُؤَبَّدَا وعَيْشُنَا مُنَكَّدَا لا نُرِيدْ لا نُرِيدْ وكان لهذا النشيد الذي زاده اللحن روعة وحماس وقعه الخاص على نفسي إذ أرجعني إلى سنة 1950 من القرن الماضي حيث مخيّم كسرى لأشبال كشّاف المكارم وكانت كسرى بلدة حباها الله بجمال طبيعي منقطع النظير حيث الروابي المكسوّة بالخضرة والأنوار والحدائق الغنّاء مع نقاوة هوائها وعذوبة مياهها ولطف هوائها وكرم أهلها.وكنّا أوّل ما نبدأ به يومنا في المخيّم هو رفع العلم منشدين: عَلَمِي يَا علمي ....يَا عَلَمِ العُرْبِ أَخْفِقِ وأشرق في الأُفُق الأَزْرَقْ يَا عَلَمْ يَا نَسِيجِ الأُمَّهَاتْ ...في اللَيَالِي الحَالِكَات لبنيهنّ الأباة كيف لا نفديك..كلّ خيط فيك ..دمعة من جفنهنّ... خفقة من جفنهنّ...قبلة من ثغرهنّ...........يا علم ما أروع هذا الكلام ولا فُضَّ فو قائل هذه الأبيات تصوّروا طفلا دون العاشرة من عمره ينهل من هذا النبع الوطني الصافي الذي لا يعكّره نشاز. هنا تذكرت العلم الرمز الذي يرفرف في رحاب» البلفيدار» واستحضرت أنّه نسج خارج الوطن وبأيادي غير تونسيّة بعد أن كنّا في صغرنا أيام الاستعمار نتغنّى بأنّ أنامل أمّهاتنا هي التي تنسج علم تونس المفدّى وفيذلك اعتزاز وفخر ووقار يضاف لفخرنا واعتزازنا ووقارنا لرمزيّة العلم المفدّى كانت أمّهاتها تنسجن العلم في «الليالي الحالكات» وهذه الجملة محمّلة بالمعاني النبيلة أختار من هذه المعاني -لضيق المكان –أنّها كِنَايَة على أيام المحن الحالكة التي تحيط بالوطن فتَنسج الأمّهات الأعلام ليرفع الأبناء في ساحات الصدام مع المستعمر أو هنّ ينسجن في ظلام الليل خوفا من المستعمر الذي كان يخشى العلم الذي هو المحفّز الحقيقي لوقوف الشعب في وجه المستعمر حيث يكون حامل العلم في المقدّمة فيندفع وراءه الشباب غير عابئين بسلاح جنود المستعمر ولا بالموت كما كان ذلك في مظاهرة طلبة الزيتونة التي أُسْتُشْهِد فيها خيرة أبنائها وكان من بينهم الشهيد «حمزة الدهماني «حامل العلم التونسي» في تلك المظاهرة..... ثمّ يتساءل الشاعر قائلا: كيف لا نَفْديك؟ وكلّ خيط في العلَم دمعة من جَفْنِ الأُمَّهات وخَفْقَة من صدرهنّ وقُبْلة من ثَغْرِهنّ وإنّي أتساءل هل علم «البلفدير الضخم» الذي صنعبأنامل غريبة عنّا سيكون له في أَفْئِدَتنا نفس المكانة؟ بقي لي مقترح وهو أن تهيّأ كلّ بلديّة ساحة يرفع فيها علم يكون علوّه ومساحته بقدر إمكانيات كلّ بلديّة المهمّ أن لا تعلو على علم تونس أي بناية وأن يكون هذا العلم من نسج الأنامل التونسيّة حتى يكون أوّل ما يفتح عليه الطفل التونسي عينيه هو علم وطنه مرفرفا خفّاقا في علوّ وشموخ بصفاء حُمْرته ونَصَاعة بياضه حتى يعلم القاصي والداني أنّ ذلك العلم خطّ أحمر دونه دماؤنا وأرواحنا.