الرحلة بدأت مع الدستور في بابه السابع الذي أتحفنا صانعوه بأفكار مستوردة لا تشبهنا في شيء و لا نشبه لها في شيء زاعمين أنها ستكون محطة إقلاع البلاد إلى ما وراء الشمس و فرصة للتونسيين للإمساك بالديمقراطية من أذنيها. وكان من الضروري في هذا البرنامج الفذ أن يقع إبعاد الدولة و مؤسساتها و تسلم الحكم لسلطة الجماعات المنتخبة التي هي في الآخر سلطة الأحزاب التي شاهدنا العجاب منها بمجلس النواب فينتقل ذلك العجاب إلى المجالس البلدية و تضع تلك الأحزاب يدها حتى على الأحياء و الانهج و الأزقة بإسم البلدية و الحكم المحلي الديمقراطي. ابتهج بعض المستقلين ببراءة و سارعوا للترشح رغبة في خدمة مناطقهم و سريعا ما أدركوا أن فضاء المستقلين انخرم و تداخلت فيه التيارات و العروض و الاستقطاب. وتمت الإنتخابات و تشكلت المجالس البلدية التي أصبحت حلبة للتشادد و العراك، و وجد الفائزون أنفسهم في مواقع القرار دون أن تكون لأغلبهم أية دراية بالشؤون الإدارية و القانونية و الإجرائية... في كل هذا غابت الدولة التي من المفروض أن تكون سلطة المراقبة و التدخل... و ضاعت مصالح المنطقة. كان من الأسلم، و هذا رأيي منذ البداية، أن نبدأ تجربة الحكم المحلي رويدا رويدا تحت رعاية الدولة، فالديمقراطية حديثة العهد في بلادنا و لا يتجاوز سنها بضعة سنوات خلافا لبعض البلدان الغربية كفرنسا التي فاتت تجربتها الديمقراطية القرنين أو أكثر، لكن الأحزاب رأت خلاف ذلك ليكون الحكم لها و لجماعاتها في كل شبر من البلاد و لو على حساب تفكيك الدولة و تخريبها. المخطط الديمقراطي لا يزال في بدايته فمن يطلع على قانون الجماعات المحلية سيكتشف أن الأمر سيصل إلى حد تقسيم البلاد إلى أقاليم و مجالس أقاليم منتخبة طبعا، و هذا في بلد صغير لا يحتمل التقسيم، بلد بذل فيه آباءنا دماءهم للحفاظ على تماسكه و توحيد دولته. وأقول قولي هذا احتراما للفصل التاسع من نفس الدستور الذي يقتضي أن الحفاظ على وحدة الوطن و الدفاع عنه واجب مقدس على كل المواطنين. وعلى كل حال فإنني أقول لأصحاب هذا البرنامج، مهما كانت مقاصدهم... أن ما كل ما تتمنونه تدركونه.