لا يكاد يمر يوم دون أن تتناول وسائل الإعلام مسألة الأزمة الغذائية التي بدأت تلقي بتأثيراتها في عدد من بلدان العالم بل إن صيحات الفزع أصبحت تصدر بين الفينة الأخرى عن كبار المسؤولين محذرة من مخاطر ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومن احتمالات تسارع وتيرة نقصها بما يهدد حياة الملايين. ولا بد من القول أن أزمة الارتفاع الجنوني لأسعار النفط واقتراب فترة نضوبه والتفكير في وسائل بديلة مثل الايتانول سرعت الأزمة التي تداخلت فيها العوامل الاقتصادية والنفسية والاجتماعية لتؤدي إلى مظاهرات مثلما كان الشأن في مصر والمغرب وإلى توترات في بلدان أخرى . ولكن لا يكفي أن تتعدد التحذيرات خاصة من قبل الدول الكبرى المصنعة والغنية قياسا ببقية الدول ذات الاقتصاديات الهشة والأوضاع الاجتماعية الصعبة وحيث تنعدم الثروات وتتراجع مكانة الفلاحة بل يتعين البحث عن حلول معقولة لتجاوز الأزمة. فالتوترات الداخلية قد تفتح الطريق أمام الفوضى التي لا تجد فيها إدارة بوش أو أية إدارة أمريكية مقبلة سوى فرصة لمواصلة تجربة مقولة "الفوضى الخلاقة" وهي فوضى لا يمكنها أن تجد مكانا لها في مجتمعات متماسكة ومنضبطة سياسيا وبالتالي فإن إثارة أزمات غذائية من شأنها تسهيل تحريك الأوضاع الداخلية . ويعني هذا أن جانبا كبيرا من دول العالم قد يدخل دائرة الفوضى بفعل أزمة الغذاء وهو أمر قد تجد فيه الدول الكبرى المصنعة والمنتجة للحبوب فرصة لفرض إرادتها على مصائر شعوب بأكملها ولكن في مقابل هذا ستتأثر اقتصاديات الدول الكبرى بأية توترات في البلدان النامية. إن من مصلحة البلدان الكبرى أن تساعد البلدان النامية في هذا الظرف بدل أن تجعل من الغذاء محل مساومة لأن الاقتصاديات المتطورة مجبرة على البحث عن أسواق جديدة وعن يد عاملة رخيصة مقارنة مع اليد العاملة في البلدان المصنعة ولا شك أن عديد الشركات يهمها الاستقرار لنقل عملية إنتاجها إلى بلدان نامية. ولذلك فإن العالم المصنع معني باستقرار الأوضاع في تلك البلدان وبأن يتمعن في اختيارات مثل تحويل نشاط المزارع المنتجة للحبوب إلى الغراسات المستعملة في إنتاج الطاقة والتشجيع على إصلاح أوضاع الفلاحة في البلدان النامية بتوفير المكننة والبذور المناسبة. يخطئ العالم المتقدم اذن حينما يعتقد أن المجاعات من شأنها أن تريح العالم من أفواه غير منتجة لأن تلك الأفواه قد تصبح مستهلكة في حالة توفر الظروف المواتية وهي التي تساهم في تنشيط اقتصاديات الدول المصنعة حتى إن كانت على بعد ألاف الكيلومترات من مواقع الإنتاج .