بعد خمس سنوات من غزو العراق اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن التدخل الأمريكي في هذا البلد لم يهدف إلى تخليص الشعب العراقي من حكم ديكتاتوري ولم يكن يرمي إلى العمل بالديموقراطية بقدر ما كان "النموذج العراقي" مجرد رغبة في تدمير رصيده الحضاري العريق والاستحواذ على ثرواته الطبيعية ولا يكون ذلك إلا بإطالة أمد الاحتلال. وليس من قبيل الاكتشاف الكبير عندما تنشر صحيفة "الغوارديان" البريطانية فحوى مشروع اتفاق "سري" بخصوص وجود عسكري أمريكي مفتوح في العراق ومن سخرية القدر أن الولاياتالمتحدة التي عرفت خلال القرن الماضي بنصرتها لشعوب عديدة من أجل الاستقلال أصبحت في القرن الجديد تمارس الاستعمار المباشر وهو ما كانت تلوم عليه الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة البريطانية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية غير أنه في حالة العراق هناك معطى إقليمي يزيد أوراق الأزمة العراقية تداخلا. فما تفعله أمريكا في العراق وما تخطط له أصبح يتم في الكواليس عبر تنسيق مع إيران "العدو اللدود للشيطان الأكبر " والواقعة في مرمى الاستهداف العسكري من قبل الفريق الحكومي الواقع تحث تأثير المحافظين الجدد.. فلا يستغرب المرء أنه بالتوازي مع التصعيد السياسي والإعلامي ضد السلطات الإيرانية هناك قنوات مفتوحة بين الجانبين الأمريكي والإيراني حول العراق ومن يدري ربما تجاوز الأمر هذا البلد إلى دول أخرى وقضايا أخرى في المنطقة. لقد كان لجوء الحكومة العراقية إلى استعمال القوة العسكرية بصورة مفاجئة ضد ميليشيات مقتدى الصدر في الآونة الأخيرة مفاجئا باعتبار أن الرجل مقرب من السلطات الإيرانية وكان "جيشه" بمثابة واجهة للرفض الشيعي للاحتلال في تقاسم للأدوار مع بقية الأحزاب الشيعية المشاركة في الائتلاف الحاكم والمتعايشة مع الوجود العسكري الأمريكي . ولذلك فإن إطالة أمد بقاء القوات الأمريكية في العراق لا يمكن أن يكتب له النجاح إلا في حالة وجود اتفاق مع إيران عبر تقاسم النفوذ في بلد مزقته الطائفية وأدمته العمليات الإرهابية حتى يترسخ النفوذ الإيراني في المنطقة وتضمن أمريكا هيمنة دائمة على منابع النفط إلى حين نفاد هذه المادة التي أثرت في مسارات تاريخ المنطقة منذ الربع الثاني من القرن الماضي. ولا شك أن الاتفاق أصبح مرغوبا فيه من قبل الجانب الأمريكي الذي انتهز فرصة تدهور وضعية مليشيات الصدر ليدعو الطرف الإيراني إلى محادثات حول الوضع في العراق وكأن الإدارة الأمريكية أرادت من خلال هذه المبادرة العلنية إعادة الاعتبار للدور الإيراني بعد هدوء العاصفة حول الملف النووي وإعطاء طهران الضوء الأخضر لضرب مليشيات الصدر التي ما فتئت تجعل من مقاومة الوجود الأمريكي أحد أبرز مكونات أدبيات "التيار الصدري". إنها المرة الأولى منذ عقود طويلة تتقاسم فيها دولة النفوذ مع الولاياتالمتحدة في الخليج العربي وبمجرد تمكن إيرانوالولاياتالمتحدة من فرض الاستقرار في العراق فإن الجانب الإيراني سيحصل على تأشيرة المرور إلى وضع قوة إقليمية تنضاف إلى كل من إسرائيل وتركيا.