هجرة القوى العاملة إلى الديار الأوروبية ظاهرة قديمة استفحلت عقب الثورة وتلك صيغة أخرى من صيغ الإسراف في توظيف الحرية. واقترنت بالخروج السري من مراسي الوطن على ظهر قوارب صيد يحملها مؤجروها من الوزن البشري ثلاثة أضعاف حمولتها القانونية. الغريب أن هذه الظاهرة باتت مسكوتا عنها، ولا تثير الانتباه إلا إذا ارتفع عدد المفقودين الغارقين في أعماق البحر. وأصبح من المألوف عند الرأي العام أن يبحر كل شهر أو كل أسبوع قارب من جرجيس أو قليبية أوصفاقس على متنه عشرات المواطنين أو المواطنات أطفالا ونساء وشبانا قاصدين السواحل الإيطالية القريبة. فيموت منهم غرقا نصفهم أو ثلثهم أو أكثر من ذلك. فلا تستحق الكارثة سوى أسطر معدودة في عمود صحفي ثم يطوى الخبر في خبايا النسيان . ولا يخرج ذكره عن صنف أنباء الابتذال من السطو على الديار أو حوادث الطرقات أو ارتفاع ثمن البطاطا. الموت حدث جلل وموعد رهيب في مجرى الحياة، كل حياة، لكل نفس آدمية. وعندما اعترض عليه بعض صحابته وقد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم بجنازة يهودي أجابهم : "أليست نفسا". "أليست نفسا" شقيق المرأة الحامل، صبي الخمس سنوات وقد غمره الموج وهي تلحظه صارخة مستغيثة. أليست نفسا شاب الستة عشر سنة من شباب الفحص غرق بأحلامه الجنونية وترك لوالديه لوعة الفراق. أليست أنفسا بريئة هؤلاء الثلاثة والثمانون تونسيا وتونسية من بينهم عشر نساء وتسعة وستون طفلا ضحوا بأرواحهم ونهب أموالهم صاحب القارب المفقود في عرض الجزيرة الإيطالية . إن هي إلا فاجعة أخرى هذا الأسبوع تتجدد بها لنا جميعا لوعة فواجع أخرى سابقة. لقد حان الوقت أن نتساءل: من المسؤول؟ أجاب بعض وزارء الحكومة أن الدولة مسؤولة. ايش معنى الدولة يا أم البشير وصالح وفطومة من أبناء الفحصوسيدي بوزيد وجلمة والقصرين. من هي الدولة؟ هل هي الحكومة وهي تشهد الفواجع تتكرر ولا تزيد على أن توفد سفيرنا لروما أو قنصل بلارمو إلى تقفد الناجين، هل المسؤول هو فريق الحرس الوطني الذي "قضى ثلاثة ساعات يتفاوض مع ركاب القارب، من تبقى منهم ليقنعهم بالعودة إلى السواحل التونسية ألا يعلم ضابط الشرطة أن هؤلاء جميعا تقع عليهم جنحة مجاوزة الحدود بدون جواز، ويشاركهم في الجنحة صاحب القارب ومن ورائه من تنظيم مالي في لون جديد من تجارة الرقيق، تجارة فاسقة لأن بضاعتها أحلام الإنسان، أحلام شبابنا وبناتنا أساسها الكذب والتزييف في عملية إشهار تجارية، إشهار جناية موثوقة بضاعتها أرواح بشرية. هي تهمة ثابتة قرائنها أسماء المفقودين هذا الأسبوع والأسابيع العديدة قبله. هؤلاء جميعا ما ركبوا البحر إلا مغرورين وقد اتصل بهم من اتصل وزينوا لهم الوعود الكاذبة بالعمل المربح في إيطاليا. وتلك قرينة أولى للجناية. ثم أركبوهم على ظهر قارب حمولته لا تزيد على وزن خمسين جسما بشريا فحشروا على ظهره مائة وستة وثلاثين جسما وهم يعلمون علم اليقين المهني أن احتمالات الغرق ثلاثة أضعاف احتمالات النجاة ، وتلك قرينة ثانية للجناية ثم إن المسافرين المحشورين على ظهر القارب ليس لهم الجوازات القانونية لمغادرة الحدود. وصاحب مشروع الرحلة مشارك في هذه الجنحة. وأخيرا فإن للرحلة ثمنا بمئات الدنانير أو بالآلاف، كما صرح بذلك بعض المسؤولين في برامج التلفزة. فإن صاحب المشروع الجنائي قد حصد من رحلة المائة والستة والثلاثين مواطنا ومواطنة ما لا يقل عن مائتي ألف دينار. فهل لمؤسسته رخصة قانونية في نقل المسافرين وتجارة الأرواح وبيع الأحلام وهل له تصريح جبائي عن مورد رزقه ومأتاه . من المسؤول عن كل هذا؟ قال بعض وزراء الحكومة : الدولة مسؤولة. قولوا من فضلكم لأم البشير في سيدي بوزيد من هي الدولة المسؤولة عن ابنها غارقا بأحلام السعادة والفوز. اليقين عند شطر عريض من أبناء هذا الوطن أن الهجرة السرية لأفواج عديدة من أبنائنا وبناتنا ليست سرية إلا عند الذين يغمضون عينيهم على القرائن الواضحة. اليقين عندنا أن شبكة تجارية من النخاسين ناشطة ببعض مراسينا وحواضرنا الكبرى، وأن لهذه الشبكة فريقا من القناصة مبثوثين في عرض البلاد يتصيدون أحلام الشباب، وأن هذا التنظيم المحكم لتجارة الرقيق وبيع الأحلام معلوم أمره عند جهاز الأمن. ولا يمكن أن نرميه بالجهل والغفلة لظاهرة خطيرة كهذه تتكرر بها الجناية على شبابنا شهرا بعد شهر. اليقين عندنا أن هذه تجارة مربحة كأوسع ما يكون الربح، دخلها المستتر بمئات الملايين، ومثل هذا الصنف من النشاط التجاري من شأنه أن يستهوي العديد من الأطماع ويغري بالمشاركة في الربح وليس له من ثمن سوى غض النظر والسكوت عن الجريمة. ويعلم أهل القانون أن السكوت عن الجريمة جريمة نكراء. واجب الدولة يا سادتي الحاكمين الكشف للرأي العام عن هذه الشبكة التجارية المعلومة يقينا عند مصالح الأمن بأسماء زبانيتها ومراكز عملهم وفروع قناصتهم وبمداخيل نشاطهم الإجرامي. واجب الدولة مقاضاة هؤلاء القتلة مقاضاة صارمة باسم أفواج الأبرياء وتهمتهم هي القتل الجماعي العمد و المتاجرة الغاشمة بالأرواح، والافتراء الصريح على أبنائنا وافتضاض بكرة الحلم البريء في الأنفس الغراء. اجتثاث الرؤوس المدبرة تلك هي البداية المؤكدة لمداواة شعبنا من هذا السرطان، ودع عنك قضية توفير العمل وانسداد أبواب الأمل وفتور الثقة في النظام. فلو تيسر توظيف مئات الملايين المدفوعة لشبكة تجار الموت في إنشاء مشاريع مجدية، زراعية وحرفية وخدمية لكان في ذلك بديل نجاة وأمن للعديد من عناصر القوى الشبابية الناشطة. ولو أعلن وزير الداخلية ووزير العدل بالقبض على عناصر الشبكة الأقطاب، وعرضهم على العدالة لارتد جانب من ثقة الرأي العام في العمل الحكومي. فهل تكون كارثة قارب المائة والستة والثلاثين نفسا بداية لهذا الإنصاف المشروع وساعة الصفر في معافاة شبابنا من السرطان القاتل.