وأخيرا خرجت منطقة زعفرانة (القيروان) عن صمتها ولفتت الانظار اليها لكنها دفعت ثمنا باهظا في ذلك،. فقد شهدت القرية على امتداد ثلاثة ايام ومنذ يوم الاحد 27 مارس 2011 أحداثا محزنة اثر تلقيها خبر وفاة 9 من خيرة شبابها. وتواصل النحيب مدوّيا مع وصول الجثث وتشييع الجنازات التي تواصل تدفقها الى القرية مع تواصل عمليات البحث عن مفقودين في قاع البحر الأبيض المتوسط الفاصل بين ميناء المحرص بصفاقس وجزيرة «لمبيدوزا» الايطالية. في «زعفرانة» المنسي، كانت الفاجعة مدوية لتسمع من به صمم. تعددت بيوت العزاء المتجاورة واحتار المعزون الى اي بيت يتجهون فالشبان الهالكون هم جميعا ابناء عائلة القواسمية بالجهة. ولقد اثبت ابناء القرية الفقراء كرمهم وثراء عبراتهم في توزيع عطفهم بشكل عادل بين الثكالى. ومساء الأربعاء ، انثال المطر على وقع الدموع ينهمر زخات على الطريق التي اغلقها الشبان احتجاجا قبل ان تغلقها الجنازة على امتداد 17 كلم في اتجاه مدينة القيروان. فقد تلقت 9 عائلات بجهة زعفرانة (17 كلم جنوبالقيروان) خبر غرق 9 من ابنائها (بين 20 و30 عاما) اثناء محاولتهم الإبحار فجر الأحد 27 مارس عبر قوارب الموت من ميناء «المحرص» بصفاقس في اتجاه الحدود الايطالية. وقد تم الى غاية يوم الخميس العثور على 5 جثث فقط من بين 9 وتم تشييع جنازتي اثنين منهم عصر الاربعاء بينما تواصل البحث عن البقية. «الشروق» تحولت الى قرية «زعفرانة» واستمعت الى شهادات بعض أهالي الضحايا وشهادة بعض الشبان الذين حاولوا الهجرة بنفس الطريقة، وبحثت في تفاصيل رحلة الموت وقوارب «الحراقة» وأسباب وقوع الشبان في التهلكة... ورغم اننا لم نتمكن من زيارة جميع عائلات الضحايا والمفقودين، الا ان الرسالة كانت واضحة...الا وهي «أغيثوا شبابنا أنهم يموتون كل يوم». «زعفرانة» هذه القرية المتمددة على الطريق الوطنية عدد2، استمدت تسميتها من نبتة الزعفران وهي باهظة الثمن وتوحي بالثراء، ومع ذلك فان أبناء هذه القرية كانوا فقراء ولم تطابق التسمية المسمى وتفشت البطالة والفقر ومظاهر الاحتياج والتهميش على كامل القرية التي زادها رداء حزن هذه الفاجعة قتامة. قرية زعفرانة لبست لباس الحزن وهي تتلقى خبر غرق شبانها (9 شبان) وتنتظر استقبال جثثهم. سبقنا الى بيوت العزاء العشرات من المعزين من ابناء الجهة يتنقلون من بيت الى بيت ومن شارع الى شارع، قبل ان ينقسموا الى مجموعات دون ترتيب او اتفاق سوى لتعديل العزاء والمساندة في ساعة العسرة. الشاب السيد بن التوهامي القاسمي(23 سنة) تلقت أسرته خبر غرقه في البحر وهو على متن قارب «الحراقة». والدته كانت وسط جمع من النسوة بينما كان زوجها المريض وحيدا في غرفة لا تشبه الغرف في اثاثها وسقفها. وقالت الوالدة انه لم يتم العثور على جثة ابنها وانها لم تعلم بأمر عزم ابنها على السفر. واضافت انه باع نعاجها الأربع دون علمها لجمع ثمن «الحرقة» (ألف و500 دينار). وقالت انه غادر رفقة شبان آخرين من ابناء القرية (قالت 13 شابا) وانه لم ينج منهم احد. وقالت وهي تلطم وجها متجعدا جرحته الفاجعة انه اتصل بها واعلمها في آخر لحظة من ركوبه «الشقف» (قارب الموت) قبل أن تأتيها الصاعقة. محطتنا الثانية منزل الشاب فوزي. هناك كانت الدموع شديد الغزارة وكانت الشواهد اكثر اثارة لانه تم العثور على جثته وهي في الطريق الى منزل والديه. لقد حاول فوزي السفر في قارب لبلوغ جزيرة لمبيدوزا، بينما كان شقيقه في قارب آخر ينتظر إشارة الأقدار. وقال شقيق فوزي انه في اللحظة الاخيرة من استعداده للسفر وبينما كان «الرايس» يطلب منه اغلاق هاتفه حتى ينطلق «الشقف» في اتجاه أعماق البحر، رن جرس هاتفه ليحمل اليه خبر غرق شقيقه قبل ان يلفظ البحر جثته. واكد لانه لم يتعرف اليه سوى من خلال هاتفه الجوال الذي كان بجيبه بسبب الأسماك التي التهمت وجهه. «الحراقة» وقوارب الموت تفاصيل خطيرة رواها شقيق فوزي بكل لوعة وحرقة واسى...كان يصرخ حتى انتفخ وريده وهو يريد ان يبلغ صوته، فتحدث عن «الحراقة» مقدما لنا اسم احدهم (أحمد الفار) ورقم هاتفه وكيف انه كان يشحن الشبان بعضهم فوق بعضا بشكل يتجاوز الحمولة من اجل المال دون اكتراث بمصير الشبان.. وقال انه هرب الى احدى الدول المجاورة وطالب بمقاضاته وتقديمه للعدالة. مؤكدا ان صاحب «الشقف» كان يجني في اليوم الواحد اكثر من 100 الف دينار كما أشار الى ان قوات الجيش كانوا يراقبون عمليات «الحرقة» ويتدخلون فقط لإنقاص عدد الحارقين دون منعهم متوجها اليهم باللائمة مشيرا أن ذلك شجع الشباب على «التهلكة». مجموعة اخرى من ابناء زعفرانه كانت على وشك الإبحار خلسة، لكن حال بينهم وبين مخاطر السفر، موت اقاربهم وأصدقائهم وتدخلت الأقدار لنجدتهم من أهوال البحر المجهول. من بينهم ابن عم الهالك فوزي، الذي كشف عدة حقائق وروى كيف كان «الحراق» يعامل الشبان وكيف كان يتحيل على أموالهم وقال انه تم خفض ثمن «التذكرة» من 1600 دينار الى 1450 لجمع اكبر عدد، لكنه كان يرفض من لا يتوفر لديه المبلغ ولو ب100 دينار وأكد انه لم يتمكن من السفر بسبب عدم توفر المبلغ كاملا. وروى هذا الاخير ان سبب اقدامه على «الحرقة» هي الظروف الصعبة لعائلته ولغياب موارد الرزق وتفشي البطالة والفقر. وتحدث هذا الشاب عن سوء الخدمات داخل مستشفى قرقنة وعن بطء عمليات البحث عن المفقودين. كما تحدث عن هلاك شبان آخرين من بينهم اطفال وفتيات. لم تنته مأساة القرية وفواجعها والقائمة طويلة. المال وفقدان الأمل «الشريف» أحد الشبان الحالمين الذين أغرتهم الهجرة وسعوا الى تغيير حياتهم البائسة، لا يزال احد المفقودين. والدته تجمعت حولها النسوة يساندنها في البكاء. تعجز عن الحديث بعد ان فقدت صوتها. قالت ان ابنها ذهب لاعالة اسرته ومساعدة شقيقه المعوق. وقالت والدته ان ابنها سئم حياته في قرية زعفرانة بسبب الفقر والاحتياج...وواصلت نواحها ومن حولها النسوة يواسينها. فوزي والسيد والشريف وصالح ومراد والصحبي وصبري وجمال...من شبان هذه القرية الصغيرة التي تجاهلها المسؤولون، بعضهم عثر على جثثهم والبقية في عداد المفقودين، لكن لم يكونوا وحدهم فالمئات من أبناء قرية زعفرانة المهمشة هم مشاريع «حارقين» وفق ما لوح به عشرات الشبان الذين التقيناهم. واكد عدد من الشبان الذين التقيناهم انهم حاولوا الهجرة خلسة لكنهم فشلوا لأسباب مادية وقال البعض إنه يجهز نفسه للمغامرة متحديا مشاهد الموت المزروع في ارجاء القرية. لكن ما الذي يدفع بشباب في ريعان الشباب وأوج الطموح والعطاء الى القاء أنفسهم في قلب البحر ليغرق والديه في بحر الاحزان...انه الفقر والحرمان وانسداد الأفق وغياب التنمية وانعدام الامل واليأس من الغد، وهكذا يقول الشبان البسطاء. وأكد الشبان انه رغم الثورة التي تعيشها تونس، فانه لم يتغير في حياتهم اي شيء. وأوضحوا انهم مازلوا مهمشين ويواجهون نفس الصعوبات. فلا احد يسمع معاناتهم ولا احد يتدخل لمساعدتهم ولا مسؤول يزورهم حتى بعد الكارثة التي حلت بالقرية كأن شيئا لم يحدث. زعفرانة... غاضبة ظهر الاربعاء وقبل تشييع جنازة شابين عثر على جثتيهما، عمد أبناء قرية زعفرانة الى إغلاق الطريق الرئيسية وهم غاضبون. وعن سبب ذلك قال العشرات من الشبان والكهول بصوت واحد ان قريتهم مهمشة من قبل المسؤولين وانه ما من احد يسمع استغاثاتهم ونداءاتهم. واكدوا وجود عدة نقائص بالجهة تحتاج الى علاج عاجل. من بطالة مزمنة وغياب المرافق الأساسية وفقر مدقع وحالات اجتماعية صعبة ومخاطر الطريق وغياب ماء الشرب والمعهد الثانوي وقنوات التطهير والرعاية الصحية والنظافة. كما اشتكوا من ظلم المسؤولين ومن اعوان الحرس ومن المحسوبية ومن الرشوة والتهميش الذي يعانون منه حتى في قطاع الفلاحة التي تغيب عنها الابار وتستغل فيها النسوة العاملات. مساء الاربعاء شيع ابناء زعفرانة جنازة ابنيهم وسط تساقط للأمطار. لكن الأحزان لم تتوقف ولم تهدأ قلوب الامهات الثكالى وهن يستقبلن 3 آخرين من ابنائهن. ومازال في قاع البحر 4 جثامين طوت معها احلام الشباب والطموح الى تحسين الاوضاع المعيشية. وفي كل الاحوال فان الامهات هن اول الضحايا واول المفجوعات...وددن لو ظل أبناؤهن في أحضانهن، فان ذلك في نظرهم اغنى من كنوز الارض... هم أكبادهن وحياتهن...احترقت الاكباد حزنا وفقدت معاني الحياة. «بجاه ربي اسمعونا وبلغوا اصواتنا» هي احدى الامانات التي حملها الشباب على عاتقنا مؤكدين ان الاطفال قد يواجهون نفس المصير ان تواصل التهميش والتفقير... لن تهدأ زعفرانة وأبناؤها نائمون في اعماق البحر...حالمون غررت بهم ايادي الموت ودفعتهم الظروف الصعبة الى ما وراء الحدود.