ربما لا نذيع سرا إذا قلنا أن التطورات الدراماتيكية التي سجلت على مستوى العلاقات بين سلطات الخرطوم وجارتها في جوبا مؤخرا لم تكن مستبعدة بل على العكس كانت منتظرة وما هي إلا مجرد بداية لموسم جني البلدان الغربية الثمرات الأولى لبذرة التفرقة والفتنة التي زرعتها في أرض السودان للإجهاز على وحدتها. لكن ما يدعو للاستغراب في هذه المعادلة، هو أن البلدان العربية ما زالت سجينة صمتها المخزي والمذل حيال هذا المخطط الغربي الشيطاني الشامل لبناء شرق أوسط جديد لن يحصد العرب فيه سوى الشوك في نهاية الأمر. فمنذ البداية كانت تفاصيل هذا المخطط الهادف إلى تقسيم السودان وتفتيته واضحة وجلية للعيان حيث تعمدت البلدان الغربية تسريع خطوة انفصال الجنوب عن حكومة الشمال بمجرد اجراء استفتاء تقرير مصير فيما عمدت منظمة الأممالمتحدة إلى الاعتراف بدولة جنوب السودان في ثاني يوم بعد اعلان الانفصال لتصبح العضو رقم 193، وذلك دون انتظار تسوية عدد من المسائل الجوهرية التي كانت تستوجب الحسم دون إبطاء والتي ظلت عالقة بين البلدين حتى اللحظة كرسم الحدود والمنشآت النفطية المتركزة أساسا في المناطق المتنازع عليها كأبيي وهجليج. وكانت هذه الخطوة مقصودة من جانب الولاياتالمتحدة بالخصوص وبتواطؤ مباشر مع الكيان الصهيوني من أجل ضمان مزيد تأجيج نار الخلاف والنزاع بين الجنوب والشمال، حيث كانت هاتان الدولتان تدركان جيدا مدى أهمية هذه المناطق الحدودية الزاخرة بالثروات النفطية وعدم استعداد حكومة الخرطوم للتخلي عن 75% من تلك الثروات المتواجدة في أغلبها في أراضي الجنوب، والتي كانت تشكل أهم مورد لخزينتها من العملات الصعبة حتى لو اضطرها الأمر للجوء إلى استعمال القوة. ولعل التوتر الذي شهدته منطقة هجليج الحدودية مؤخرا والذي تمثل في قصف الطيران السوداني للمنطقة ولعديد البلدات الحدودية الأخرى وتهديده باستخدام القوة العسكرية لتحرير هجليج على خلفية سيطرة جنوب السودان عليها دليل على ذلك، ومؤشر قوي لامكانية عودة اشتعال القتال على طول المناطق الحدودية، وما يعنيه ذلك من احتمال دخول الطرفين في حرب شاملة يحرض عليها كل من اسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية في اطار استراتيجية كاملة لاستنزاف ثروات البلاد. فالسودان كان إلى حد الآن أكبر دولة عربية اسلامية مساحة.. دولة تحظى بأرض خصبة صالحة للزراعة، اضافة إلى الثروات الطبيعية الكثيرة والمتنوعة التي يزخر بها ترابها، مما جعلها محل أطماع العديد من القوى الأجنبية ومنها الكيان الصهيوني الذي عمد إلى اغراق البلاد في مستنقع الخلافات ارتكازا على النعرات القبلية والطائفية ليفتح له المجال لاستنزاف ثروات البلاد واستغلالها لصالحه. ويبدو أن المطامع الصهيونية لم تتوقف عند هذا الحد بل تجاوزته حاليا إلى الدفع باتجاه انفصال النيل الأزرق ومنطقة كردفان من خلال دعم وتسليح حركات التمرد الناشطة هناك عبر جوبا. لقد كانت تداعيات انفصال الجنوب وخيمة على الوضع العام في البلاد، ناهيك عن سلبياته الاقتصادية، غير أن انعكاسات تفتيت السودان على الأمن القومي العربي ووحدة دول المنطقة تعتبر أكثر كارثية وتستوجب قرع ناقوس الخطر.
تداعيات كارثية
وللإشارة فإن مشروع تفتيت وتقسيم البلدان العربية جرى طرحه في أروقة السياسة الإسرائيلية منذ مطلع الثمانينات، حيث نشر أحد مستشاري الأمن في وزارة الخارجية في تل أبيب آنذاك مقالا في مجلة "كيفونيم" بعنوان "خطة إسرائيل في الثمانينات" تضمن المخطط المفصل للكيان الصهيوني لتقسيم دول المنطقة الشرق أوسطية إلى دويلات عرقية وطائفية، وقد أشار كاتب المقال إلى أن هذا المشروع قابل للتجربة في في السودان على وجه الخصوص.
لماذا السودان بالذات وليس أية دولة عربية أخرى؟
في هذا الصدد، يقول محللون وخبراء أن خيار البدء بالسودان في تنفيذ هذا المخطط الصهيوني الحاصل على دعم الولاياتالمتحدة يعود إلى سبب بسيط وهو الموقع الاستراتيجي الذي تحتله السودان كبوابة العالم العربي الاسلامي وهمزة الوصل بينه وبلدان القارة الإفريقية، ولهذا يعتبر التواجد الإسرائيلي في منطقة كجنوب السودان خرقا للأمن القومي العربي وتهديدا كبيرا للوحدة العربية مستقبلا، ناهيك عن أن تواجد اسرائيل في المنطقة سيسهل عليها نشر "فيروس" الفرقة والخلاف في بقية بلدان المنطقة. وللأسف فقد نجحت تل أبيب في بناء علاقات قوية مع جل البلدان الإفريقية وخاصة منها دول منابع النيل وقامت بابرام اتفاقية "عنتيبي" مع هذه البلدان لبناء سدود وآبار وضمان موارد تموينها بالماء ولوضع العراقيل أمام وصول مياه النيل إلى مصر مستقبلا. فجنوب السودان على سبيل الذكر يوجد على أراضيه قسم كبير من منابع نهر النيل وروافده، ما يجعل منه منطقة متميزة قادرة على التحكم بمصير 10 دول تعتمد على مياه هذا النهر بوصفه شريان الحياة الرئيسي لها كمصر، ولعل ذلك من شأنه أن يعزز ما أشار إليه عديد المراقبين والمهتمين بالشأن الشرق أوسطي في أن الحروب المقبلة ستندلع من أجل الماء. إن السودان لم يكن أول دولة عربية يبدأ فيها تنفيذ مخططات التقسيم.. ولن تكون الأخيرة لأن الضمانة الوحيدة لاستمرار إسرائيل في الوجود هو تفتيت العالم العربي وإغراقه في مستنقع خلافات طائفية وعرقية تقود إلى شرق أوسط جديد يتماشى مع لعبة المصالح الغربية، لكن أين البلدان العربية في خضم هذا؟ وهل هي على دراية بهذا المخطط الشيطاني الذي من شأنه أن يجهز على الأمة العربية الاسلامية؟
سبات عربي
المأساة جاءت بالدرجة الأولى من قِبَل ما تسمى ب"دول الاعتدال العربي" بعد القوى الخارجية التي كانت وراء الانفصال. فالزعماء العرب يتحمّلون مسؤولية عدم الوقوف إلى جانب السودان ودعمه في الحفاظ على وحدته والتصديٍ للسياسات الأمريكية الأوروبية التي دفعت نحو الانفصال... كما سبق أن التزم بعضهم جانب الحياد السلبي والبعض الآخر ذهب إلى حد التواطؤ مع المعتدين (العدوان الأمريكي على العراق سنة 2003 والعدوان الاسرائيلي على لبنان سنة 2006 والعدوان على غزة في حرب الرصاص المصبوب سنة 2008 - 2009) . فمهما قيل عن انشغالات الدول العربية في شؤونها الخاصة وما تواجهه من مخاطر وتحديّات، ومهما قيل عن المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها مصر والوضع العربي عموماً، إلاّ أن إغفال ما يجري في السودان لا يمكن تبريره ، ولن تنفع ندامة إذا حصل التمزق وتغيّرت خريطة العالم العربي إلى ما لا يحمد عقباه. فهل لم يحن الوقت بعد لصناع القرار العربي أن يستفيقوا من سباتهم وأن ينفضوا غبار المذلة والاستكانة ويغيروا من سياستهم الانهزامية والاستسلامية تجاه الغرب؟.. ألم يستوعب العرب درس العراق وليبيا والسودان اليوم؟.. ألم يحن الوقت للتحرك ومجابهة هذه المخططات الشيطانية؟.. ألم يتيقن العرب إلى اليوم أن غالبية البلدان الغربية لا تريد خيرا لهذه الأمة العربية، ونتحدى من يدلنا على نتيجة إيجابية واحدة تحققت من تعامل واشنطن مع أيّة قضيّة عربية أو قطر عربي؟