لم يكن الإعلان عن زيارة وفد من رجال الأعمال الإسرائيليين لدولة جنوب السودان الناشئة خلال الأيام الماضية أمرا مفاجئا فالأطماع الغربية والصهيونية قديمة. وما حصل هو تراكمات عقود خلت وليس وليد اللحظة. فالسودان بما في ذلك جنوبه المستقل يمتلك الكثير من المقومات الثقافية والاقتصادية الكبيرة التي تجعله يأخذ موقعا مؤثرا في افريقيا جنوب الصحراء، فهو يحتوي على ثروات طاقية هائلة وعلى مخزون كبير من المياه يوفره النيلان الأبيض والأزرق و روافدهما، وبإمكانه زراعة القمح مرتين في السنة، بما جعله في السابق مرشحا ليكون قوة اقتصادية عربية واقليمية هائلة. وقد زادت أهميته الاستراتيجية بعد اكتشاف النفط والبدء بتصديره منذ عشر سنوات . فالدول الغربية التي لديها مشروعات كثيرة في المنطقة لم تغفل عن هذا المعطى الاقتصادي والاستراتيجي الذي جعلها تلهث لرؤية السودان مقسما بما يؤمن مصالحها ومخططاتها. ومن جهة أخرى فإن السودان ليس بمعزل عن النزاع الدائر بشأن تقسيم مياه النيل. فالجنوب السوداني هو جزء من منطقة البحيرات الإفريقية الكبرى التي تشمل اوغندا وكينيا ورواندا وبورندي وتنزانيا والتي تشهد نزاعا حول تقسيم المياه. فتفتيت السودان سيقود لا محالة إلى إعادة الاتفاق حول حصص مياه النيل بين دول الحوض بعد انبثاق دولة جنوب السودان وهذا سيضعف من حصة مصر في المياه ويهدد أمنها القومي. وتشير المعلومات المتداولة الى أن التأثير الإسرائيلي المباشر في قضية جنوب السودان بدأ مع ظهور حركة أنيانيا المتمردة في الجنوب منتصف خمسينيات القرن العشرين، وتؤكد بعض المصادر بأن هناك حوالي ثمانية آلاف خبير اسرائيلي تدفقوا إلى حوض النيل والقرن الإفريقي خلال تسعينات القرن الماضي وان إسرائيل تمد حركة انيانيا المتمردة بالسلاح والعتاد. كما ان رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت أعلن مرارا عن رغبته بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عند انفصال الجنوب وهو ما حصل بالفعل. فهذا الانفصال يضمن لإسرائيل إحداث فصل بين الثقافة الإسلامية والعربية في شمال السودان ومنطقة أواسط إفريقيا، من خلال إقامة دولة مسيحية في جنوب البلاد. ويرى البعض ان هذه الأطماع زادت بعد اكتشاف الثروة النفطية التي يعتبر الجنوب مصدرها الأساسي ويقدرها الخبراء بسبعة مليارات من البراميل . ويتحمل العرب وزر ما حصل للسودان لأنهم تركوا هذا البلد الغني بالثروات النفطية والطبيعية فريسة للأطماع الغربية. فمنذ استقلاله ُترك ليواجه مصيره وحيدا و زاد فشلهم في إنهاء الحرب بين الشمال والجنوب الطين بلة حيث بات الملف السوداني بيد الغرب يتحكم به وبمصيره حتى ان اتفاق السلام الموقع في كينيا عام 2005 تمّ بمباركة أمريكية وبعيدا عن أي هامش للمناورة او أي دور عربي. أما اليوم فالمطلوب عربيا الكف عن البكاء على الأطلال والسعي لتجنب تداعيات هذا التقارب الكبير بين إسرائيل ودولة الجنوب الناشئة من خلال السعي إلى استقطاب هذه الدولة طرية العود والاستثمار فيها وإقامة علاقات متينة معها حتى لا تتحول إلى خطر على الأمنين القوميين لمصر و السودان تهدد حصتهما من مياه النيل و تصبح قاعدة جديدة للكيان الصهيوني تصوب من خلالها سهامها إلى شتى أرجاء العالم العربي. وينطبق الأمر ذاته على إقليم كردستان العراق الذي يستعد بدوره إلى الانفصال وقد تغلغلت في أرجائه الدعاية الصهيونية. ويتم ذلك من خلال مخطط شبيه بمخطط مارشال الذي سعت من خلاله واشنطن إلى إعادة تأهيل خراب أوروبا اقتصاديا و سياسيا وثقافيا إثر الحرب العالمية الثانية لانتشالها من براثن النازية التي أحكمت قبضتها على القارة العجوز.