قد نفهم موقف المسؤولين الاسرائيليين الغاضب من قصيدة الشاعر الالماني غونتر غراس وهو الذي أقدم على كشف حقيقة الخطر النووي الاسرائيلي على الامن والسلم في العالم, ولكن ما لا يمكن فهمه ذلك الاجماع الحاصل في المواقف الرسمية في امريكا وأوروبا على رفض وادانة تلك الكلمات التي تعبر عن راي شخصي لمثقف له مكانته في الساحة الفكرية و الثقافية في أوروبا و في العالم... عندما تضيق الديموقراطية بالكلمات وبالإبداع فلا تتسع للرأي الاخر فان المحنة أكبر من أن تنحصر في حدود ديموقراطيات ناشئة لا تزال تتدرب على وقع مناخ الحرية الجديد الذي تعيشه و بين الديموقراطيات العريقة التي جعلت من حرية الراي والتعبير عنوانا لسياساتها الثقافية المعلنة ... بل المثير أن دعاة وانصار حرية الرأي والتعبير في الديموقراطيات الغربية قد اختنقوا بسبب قصيدة غراس التي لم تتسع لها صدورهم وتصدت لها عقولهم ,فأحرجت كلماته الكثيرين قبل وبعد ترجمتها بل وتسببت في ازعاج أصدقاء اسرائيل و حلفائها ,كلمات غراس على بساطتها وتلقائيتها أكدت أن الشعر وعلى خلاف ما يعتقده الكثيرون يمكن أن يكون له وقعه في تحريك الملفات السياسية الراكدة . ما يجب أن يقال عنوان قصيدة غراس التي أراد لها أن تكون اعترافا صريحا مزدوجا بعدم قدرته على مزيد احتمال الكذبة التي ارهقته طويلا و اعتراف أيضا بما يشعر به من اشمئزاز ازاء النفاق الغربي في مواقفه المزدوجة ازاء الترسانة النووية الاسرائيلية والترسانة الايرانية. ما دفع غراس, الى هذا الموقف في مثل هذه المرحلة من الحياة وهو الذي تجاوز عقده الثامن مرتبط بقرار ألمانيا بيع اسرائيل غواصات قادرة على تدمير الرؤوس الحربية فكتب يقول انه لن يصمت بعد الان لانه سئم من نفاق الغرب و أن لديه الان أمل أن يتحرر الكثيرون من صمتهم خطورة تصريحات غراس لا تتوقف عند حدود صدورها من ألمانيا و ما تثيره علاقتها في الماضي بمعاناة اليهود مع المحرقة النازية ولا أيضا بما فرضته لاحقا عقدة الذنب المشتركة على الاوروبيين من تغييب قسري للضميرالاوروبي و الغاء للعدالة الدولية و اصرار على المساواة بين الجلاد و الضحية , لكن خطورة تلك التصريحات تكمن في أنها أعادت الى السطح أحد الملفات الامنية المصيرية في منطقة الشرق الاوسط وفي العالم والمتعلقة بالملف النووي الاسرائيلي والذي اعتبره غراس صراحة أنه أخطر من المشروع النووي الايراني. ومع أن غراس لم يكشف في قصيدته جديدا و لم يتجاوز ما ذهب اليه الباحث النووي الاسرائيلي فعنونو عندما كشف أسرار ترسانة اسرائيل النووية فان الحملة الشرسة التي استهدفت غراس صاحب جائزة نوبل للاداب و حولته الى شيطان قد لا تهدأ قريبا. والواقع ان غراس قد اخترق بقصيدته التواطؤالغربي وأسقط المحرمات و أزال الاقنعة المحصنة للترسانة النووية الاسرائيلية. وقع كلمات غراس كان أشبه بوقع القنابل على المسؤولين في اسرايئل و هو الذي أجج غضب ناتنياهو, و دفع بوزير داخليته الى حالة من الهستيريا ليعلن أن الشاعر الالماني غير مرغوب به في اسرائيل و هو الذي أشهر معاداته للسامية ...ربما لم يتوقع غراس عندما وضع تلك الكلمات أن تضيق به الديموقراطية و أن يتحول الى متهم بسبب أفكاره , و ربما يكون أيضا أدرك ما ينتظره وهو الذي خرق المحرمات وحطم الممنوعات و تجرأ على اسقاط بقية من قناع لم يعد يخفي عنصرية وخطورة قدرات اسرائيل النووية على الامن والسلم في منطقة الشرق الاوسط وفي العالم.