نشرت جريدة الوطن التونسيّة في عددها السّابع والسّتين، مقالا شغل نصف الصّفحة السادسة منها، للدّكتور سالم لبيض، أستاذ علم الاجتماع بالمعهد العالي للعلوم الانسانيّة بتونس، بعنوان: محرقة غزة تنهي "أسطورة المحرقة". ولا اعتراض من قبلنا بطبيعة الحال على المشاعر النّبيلة التي عبّر عنها الدكتور في مقاله تجاه مأساة غزّة، فنحن نقاسمه ذلك من أعماقنا بحكم الانتماء العربي والإنساني... ولكن ما لفت انتباهنا هو بعض المصادرات الغريبة التي تضمّنها المقال والتي تدفع إلى التساؤل حول مدى مشروعيّتها الأخلاقيّة والنظريّة. وليسمح لنا صديقنا الدكتور سالم بذلك لأنّ النّقد لا يفسد للودّ قضيّة، ولأنّ المحاورة الجادّة تقتضي أيضا أن نتواصل كتابة لا أن نكتفي بكلام يقال وينسى حول كأس من القهوة. فنحن نرى أنّ بعض المواقف الواردة في هذا المقال، رغم طابعها غير النظري - حيث يبدو الكلام أشبه بالخُطبة السياسية منه بالمقال بألف ولام التعريف - تستدعي توقفا سريعا لتوجيه بعض الأسئلة حول مضمونها من جهة، وحول بنية الكلام الذي صيغت به من جهة ثانية. ويفرض الأمر نفسه لأنّ الكلام لأستاذ في علم الاجتماع وليس مجرّد حديث صحفي لزعيم حركة سياسيّة أو لصحفي في جريدة القدس العربي اللّندنيّة يتحدّث من على منبر قناة الجزيرة مثلا. مستهلّ كلامنا في ذلك هو من جنس ما حرّك قريحة الدكتور لبيض، انّه شعورنا العميق بالاستفظاع وبالحزن والأسى والغضب ليس فقط على دماء الأبرياء التي أسالتها آلة الدّولة المصطنعة غريبة الأطوار (حيث لا حدود ولا دستور لها) المزروعة في خاصرة الوطن العربي، والمسمّاه باسرائيل، أعني تلك "الدّولة" المُدَّعى لها أنّها جزيرة الديمقراطيّة والحداثة في محيط التخلّف والاستبداد العربي الشرقي...، بل وعلى العجز الذي لنا حيال الجريمة التي لم تتوقّف عن استفزاز الذاكرة العربية والانسانيّة منذ ما قبل اعلان تأسيس هذه "الدّولة". وحيال مشهد المجزرة، فإنّ هذا العجز متواصل منذ 13 ديسمبر 1947، أعني منذ مجزرة "قرية الشيخ" التي ذهب ضحيّتها 600 شهيد فلسطينيّ، مرورا بمجزرة "اللّد" التي قادها "موشي دايان" يوم 11 جويلية 1948 ليذهب ضحيّتها ما يقارب ال: 426 شخصا، وصولا إلى خان يونس 1- (3-11-1956) وخان يونس -2 (12-11-1956) ثمّ ذلك المشهد الفظيع ببيروت الذي رسمه تحالف الكتائب والجيش الصهيوني يوم 18 سبتمبر 1982 ليقضى على مسرحه المرعب أكثر من 3500 شهيد فلسطيني من السكّان الأبرياء لمخيّمي صبرا وشاتيلاّ في سمفونيّة دم لم يشهد لها التّاريخ نظيرا. إنّه لمشهد فظيع، مطلق الفظاعة، ولكنّ الأفضع برأينا هو النسيان، نسيان الجرائم التي يعرف جميعنا أنّ عقوبتها لا تسقط بالتقادم من منظور القانون الدّولي... فأين هم السّادة المحترمون كثيرو الخُطب والكلام في اتحاد المحامين العرب مثلا لكي يضطلعوا بمسؤوليّة احد المشاهد الأكثر ايذاء وخطرا على الوعي العربي؟ أم أنّ أمرهم يا ترى هو مجردّ خُطَب... ولكن هذا كلام آخر، فالأهمّ هنا هو ما ورد في كلام الدّكتور لبيض فيما ذهب إليه من تأويل للموقف. وليسمح لنا الدكتور بأن نستقرأ أوّلا مستهلّ كلامه فيما اعتبره طوباويّة القول بكونيّة الدّم والانسان. فهو يصادر على أن لا حقيقة البتّة لمثل هذه المسلّمة التي يقرّ الجميع اليوم بأنها الأساس الأخلاقي الذي لاغنى عنه لكلّ تشريع قانونيّ انساني. فأي معنى لخطاب حقوق الانسان ولما يسمّيه الدكتور في مقاله بالعدالة الانسانيّة، ان لم نفترض قبليّا وحدة الانسانيّة وكونية حقيقتها؟ وهو يعتبر أنّ ما حدث من مجزرة في غزّة هو الحجّة على ذلك. وبعبارة أوضح، وو فقا لما فهمنا من سياق قوله، فإنّ سكوت ما يسمّى بالمجتمع الدّولي، ثمّ الطّريقة البشعة والوحشيّة التي سلكت بها العصابات المتطرّفة، التي تسمّى بالجيش الاسرئيلي، عدوانها في غزّة، هما حجّتا الدّكتور على أنّ الانسانيّة ليست واحدة وعلى أنّ دم البشر( ليس في تركيبه البيولوجي والكيميائي طبعا وانّما في دلالته الرّمزيّة والأخلاقيّة) ليس هو بدوره واحدا. ف"كم هي طوباويّة"، حسب الدكتور لبيض، "مقولة الدّم الانساني وكم هي طوباويّة مقولة الانسان الكوني الواحد وكم هي طوباويّة القيم الانسانيّة الواحدة ثمّ كم هي طوباويّة وخرافيّة الانسانيّة الواحدة؟". والأنكى من ذلك، أنّ الدكتور لا يقول ذلك لمجرّد التعبير عن انفعاله لهول ما حلّ بالأبرياء في غزّة بل هو يقرّ بأنّ كلامه لا يحتمل الشكّ: "لا شكّ عندي اليوم في أنّ دمنا ليس دمهم وأنّ قيمنا ليست قيمهم وأنّ انسانيّتنا غير انسانيّتهم وأنّ أصلنا المشترك هو من قبيل الأسطورة الشائعة". هكذا وبكلّ استسهال للحكم في شأن أخلاقي خطير كهذا يقفز الدكتور لبيض (أرجو أن يكون ذلك دون شعور منه) إلى الموقع المقابل تماما في جبهة الصّراع ليتبنّى نفس منطلق الموقف الأسطوري والخرافي الذي يصدر عن رجل الدّين اليهودي-الصّهيوني الذي نراه يتصدّر سرب المدافع والدبّابات المُقدمَة على قصف مدينة عربيّة مكتظّة بالسّكان كغزّة وهو يقرأ نصّا مقدّسا. ولكن، نعتقد أنّه على الدكتور أن يتساءل: أوليس الصهاينة هم من يدافع عن فكرة الاختلاف الجوهري بين طبائع البشر من حيث نصوصهم الأسطوريّة نفسها كي يشرّعوا من خلالها لأنفسهم عمل الابادة والاستيطان المتواصل في فلسطين منذ ما يفوق نصف القرن؟ ألم يكن التشكيك في وحدة الانسانيّة هذا هو نفسه الذي كان وراء أحد أعتى وأبشع أشكال التوتاليتاريّة الأوروبيّة المعاصرة (ألمانيا) التي دفعت بتقليد المحرقة (الهلوكوست)، بُعيدَ انتهاء الحرب العالميّة الثانية، إلى قلب الوطن العربي لتجعلنا نعيش، فيما يشبه الارتداد الزلزالي المتواصل، على إيقاع الهلوكوست الأبدي؟ أوليس هو أيضا ما يحرّك النزعات العنصريّة في الغرب ضدّ الأجناس الأخرى غير الأوروبية الوافدة على أوروبا وأمريكا الشماليّة؟ أليس هو أساس نظريّة العودة إلى الوطن الأمّ الصّهيونيّة؟ وهل يقبل الدكتور لنفسه أن يتجه صوب تأسيس عنصريّة أخرى تردّ على الهمجيّة بإذكائها وتبريرها من جديد؟ لا نخال الدكتور عاجزا عن أن يدرك أنّ القول بضرب من الاختلاف الجوهري بين الأجناس أو الحضارات إنّما هو المقدّمة الملائمة لكلّ فاشيّة مقبلة ممكنة. وليقرأ الدّكتور - وهو المهتمّ كثيرا بالأحداث والوقائع - تاريخ العالم الحديث، بشرط أن يقف على "منطق" الاشياء الذي قاد الانسانيّة في لحظات زللها إلى أبشع ما يمكن أن يكشف عنه مشهد الفظاعة والانحطاط إلى أقلّ من مرتبتها في الدّرجة. غير أنّ الأغرب في كلام الدّكتور هو التناقض. اذ كيف نوفّق بين مستهلّ كلامه هذا عن تشتت الحقيقة الانسانيّة، وما يورده بعد ذلك من أنّ " غزّة اليوم هي سراج للانسانيّة" ؟ اذ عن أيّة انسانيّة يتحدّث؟ أهي انسانيّة الدم المفترق جوهريّا، بمعنى انسانيّة الانسان المنقسم على نفسه في صورة شتات من الطبائع الخالدة الساكنة مطلقا في تماثلها الا تاريخي؟؟ أم هي إنسانيّة من سمح الدكتور لنفسه بأن يسميّهم "بالشّعوب الحرّة في العالم"؟. لكن من هي هذه الشعوب الأخرى الحرّة وعلى أي تعريف للانسانيّة يجب أن تُحمل حسب رأيه؟ هل يتوجّب ادراجها ضمن مقولة الانسانيّة الواحدة الكانطيّة التي يرفضها الدكتور لبيض، أم نتعامل معها على أنها من طبيعة أخرى؟ هكذا يكسر الدكتور مسار كلامه فجأة ليخاطب " كلّ الشّعوب الحرّة في العالم، كلّ المدن والقرى..." وليصرّح بالحرف أن "على كلّ هؤلاء أفضال غزّة أن جمعتهم في مظاهرات مليونيّة...." ومنه يتمادى في مناقضة المستهلّ من كلامه ليقول:" كافّة الجنسيّات التي تحولت جنسيّة واحدة (يقصد استحالت جنسيّة واحدة)، كلّ اللّغات التي نطقت كلمة واحدة...الخ.".. ثمّ ليخاطب رجال القانون (الإخوة المحامون في اتحاد المحامين العرب مثلا) بأن يتّجهوا صوب "العدالة الانسانيّة" لمعاقبة المجرمين. فكيف يسمح الدكتور لنفسه بأن يتحدّث عن عدالة انسانيّة اذا كان من حيث المبدإ لا يقرّ، ودون أدنى شكّ، حقيقة الوحدة الأخلاقيّة للدم البشري، واذا كان يعتبر طوباويّا كلّ حديث عن انسانيّة واحدة؟ هل لا يكون ذلك اعترافا منه - ومن ثمّة تناقضا مع المنطلقات - بوجود مشروعيّة أخلاقيّة وقانونيّة كونيّة تشكّل مرجعيّة قيمية وحقوقية انسانيّة مشتركة؟ ألا يمثّل ذلك اقرارا ضمنيّا بأن المسألة لا تتعلّق باختلاف جوهري بين طبائع البشر ودمائهم، وبأنّ الخلل لا يكمن في تلك القيم وتلك العدالة في حدّ ذاتها ( تلك العدالة التي تدين بالكثير - لعلم الدكتور - شاء ذلك أم لم يشأ فيما هو أمر يخصّه، إلى أفكار إيمانويل كانط وجون لوك الفلسفيّة الأخلاقيّة والسّياسية...)، بل في الأجهزة السّياسية الدّوليّة التي تهيمن على تسيير تلك العدالة وهي ممثلة بالهيئات التشريعيّة والتنفيذيّة العالميّة المعروفة (كمحكمة العدل الدوليّة مثلا) فتجعلها تكيل بمقياس المكيالين المعروف؟؟ وللدكتور أن يتفكّر جيّدا حتّى يعرف ما اذا كان هذان المكيالان يستمدّان تبريرهما من اختلاف الطبائع الخالدة السّاكنة في تماثلها الدّاخلي خارج التّاريخ كما يعتقد هو، أم من صراع ذو طبيعة أخرى لا يريد هو أن يتفاجأ بمعرفتها؟ وليكن منطلقه حينئذ ما يقوله هو نفسه عندما يؤكّد على أنّ ما سمّاه "الدّرس الأول" ( فلنتعلّم اذن من هذا اذا كان درسا) الذي علّمتنا إيّاه غزّة "جاء من أفق بعيد، من شعب بعيد لا يجمعه التّاريخ ولا الجغرافيا ولا اللّغة ولا الدّين مع غزّة، هو فنيزويلا التي طردت سفير دولة العسكر ودعت إلى محاكمة حكّامها على جرائم الحرب التي ارتكبوها ..." اذا كان ذلك هو الدّرس الأول، أي الأهم بعبارة أخرى، فكيف يسمح الدّكتور لنفسه بالقول بعدم وحدة الدم البشري؟ الحقّ اننا لا نفهم مثل هذا التناقض... ثمّ أنّه على الدكتور لبيض أن يكافح نظريّته الجديدة هذه في الطبيعة البشريّة بكلام الرّئيس الفنيزولي شافيز الموجّه إلى أهل غزّة عندما قال: " دماؤكم المراقة في قطاع غزّة هي دماء الفنيزوليين وكلّ الانسانيّة... إنّني وشعبي نشدّ على أياديكم، ونقف معكم في مقاومتكم المشروعة للاحتلال والحصار... نحن أبناء موقف واحد، والدم المراق في غزّة هو دمنا.... هو دم الانسانيّة المراق على آخر معاقل الاحتلال المنهارة..." (منقول عن نفس العدد من نفس الجريدة، ص7). ولا ندري ماذا كان تعليق الدكتور عندما قرأ العمود الصّحفي الملاصق لمساحة مقاله على نفس الصفحة من الجريدة، وهو عمود يتضمّن مقتطعات مترجمة من رسالة باللغة الفرنسيّة وجّهها المؤرّخ اليهودي أندري نوشي إلى سفير الدّولة غريبة الأطوار المذكورة أعلاه بباريس متّهما الاحتلال بالسرقة وابادة الأبرياء من أجل الاستيطان؟ فما هي طبيعة دم هذا اليهودي يا ترى؟ أم تراه قد تعرّض إلى ضرب من الاستحالة أو التحول الجوهري transsubstantiation؟ وليسمح لنا الدكتور لبيض أخيرا بأن نقول كلمة فيما يراه عن أقوال جون لوكJ. Locke و إ.كانطE.Kant عن بعض الشعوب غير الأوروبيّة من أنّها من درجة ثانية مقارنة بالأوروبيين. انّه لمن الجيّد أن نعرف المواقف الشخصية الجانبيّة لمفكّر أو عالم ما، ولكنّ الأهمّ هو أن نعرف أنساق العلماء والمفكرين، والبنية النظرية المكتملة لمشاريعهم. لو كان الأمر هو كما يريد الدكتور سالم لبيض، فإنه سيكون علينا أن نتوقف عن دراسة الفلسفة النقديّة الكانطية في مستوييها المتعلّقين بنقد العقل النظري والعملي... وعن دراسة فلسفة ج. لوك السياسية وما أضافته فيما يتعلّق بمسألة التسامح خاصّة. لو كان الأمر كذلك، يا أستاذ لبيض، لعدل أجدادنا عن ترجمة الفلسفة الاغريقيّة ولخسرنا عناصر هي في صلب ديناميكية الفكر العربي القديم. فاذا كانت النصوص الأفلاطونية والأرسطيّة تعلن صراحة بأن الشعوب الأخرى برابرةBarbares وأنّه من طبيعة الأمور أن يخضعوا لسلطة الاغريقي (أنظر أرسطو، كتاب السياسة مثلا)، فإنّ ذلك يعنى أنه يجب علينا رفضها بأكملها والتوقّف عن دراستها حسب المنطق الذي أشار به الدكتور إلى كانط ولوك. وليعلم الدكتور أنّه لولا الجهد النظري لكانط في مستوى الفلسفة العمليّة ولولا رسائل لوك في الحكومة المدنيّة ولولا ارث التنوير الأوروبي الذي يتحدث عنه باشمئزاز غير مفهوم، لما كانت الثورة الفرنسيّة ممكنة ولما كان ممكنا الاضطلاع بذلك الجهد القانوني والحقوقي طويل الأمد منذ اعلان المبادىء الفرنسي(1789) والإعلان الأمريكي لحقوق المواطن (1776) وصولا إلى الاعلان العالمي لحقوق الإنسان(1948) الذي يحدد ما يسمّيه هو نفسه بالعدالة الإنسانية والذي يشكّل اليوم مرجعا كونيّا يتسنّى لنا نحن العرب أن ندافع من خلاله عن حقوق المظلومين في غزة. أمّا الوعي الأخلاقي الانساني الكوني الذي قاد هؤلاء الفلاسفة (كانط ولوك خاصّة يا دكتور*) والحقوقيين الى صياغة هذا الاعلان، فهو نفسه الذي حرّك السّيد شافيز ليقول لفلسطينييغزة أنّ دمكم هو دمنا بل وحرّك الملايين في تلك المظاهرات التي شهدها العالم تعاطفا واحساسا بالألم، ونأمل أن لا يكلّ هذا الجهد في دفع الجمعيات والحقوقيين المتجنّدين الآن من أجل جلب المجرمين إلى محكمة جرائم حرب دولية. * انظر في ذلك: J Locke, Lettre sur la tolérance, 1689 Les deux Traités du gouvernement civil, 1690 E. Kant, Critique de la raison pratique1788 Et la première partie de Métaphysique des m'دurs 1796