حزب الله يؤكد استشهاد القيادي إبراهيم عقيل في غارة صهيونية    أخبار النادي الصّفاقسي ... الانتصار مع الاقناع    تونس : دفعة معنوية كبيرة للنجم الساحلي قبل مواجهة الإتحاد المنستيري    حكايات من الزمن الجميل .. اسماعيل ياسين... الضاحك الحزين(2 /2).. النهاية المأسوية !    في أجواء عراقية حميمة: تكريم لطفي بوشناق في اليوم الثقافي العراقي بالالكسو بتونس    عادات وتقاليد: مزارات أولياء الله الصالحين...«الزردة»... مناسبة احتفالية... بطقوس دينية    حادثة رفع علم تركيا ... رفض الإفراج عن الموقوفين    موعد انطلاق المحطات الشمسية    عاجل/ الاطاحة بمنفذ عملية السطو على فرع بنكي بالوردية..    بنزرت ماطر: العثور على جثّة طفل داخل حفرة    في قضيّة تدليس التزكيات...إحالة العياشي زمّال على المجلس الجناحي بالقيروان    يُستهدفون الواحد تلو الآخر...من «يبيع» قادة المقاومة ل «الصهاينة»؟    أم العرايس ... قصّة الفلاح الذي يبيع «الفصّة» لينجز مسرحا    شهداء وجرحى في عدوان صهيوني على لبنان .. بيروت... «غزّة جديدة»!    لقاء الترجي الرياضي وديكيداها الصومالي: وزارة الداخلية تصدر هذا البلاغ    وضعية التزويد بمادة البيض وتأمين حاجيات السوق محور جلسة عمل وزارية    مسالك توزيع المواد الغذائية وموضوع الاعلاف وقطاع الفلاحة محاور لقاء سعيد بالمدوري    بداية من 24 سبتمبر: إعادة فتح موقع التسجيل عن بعد لأقسام السنة التحضيرية    المدافع اسكندر العبيدي يعزز صفوف اتحاد بنقردان    طقس الليلة.. سحب كثيفة بعدد من المناطق    مركز النهوض بالصادرات ينظم النسخة الثانية من لقاءات صباحيات التصدير في الأقاليم من 27 سبتمبر الى 27 ديسمبر 2024    أولمبياد باريس 2024.. نتائج إيجابية لخمسة رياضيين في اختبارات المنشطات    مريم الدباغ: هذا علاش اخترت زوجي التونسي    بالفيديو: مصطفى الدلّاجي ''هذا علاش نحب قيس سعيد''    تأجيل إضراب أعوان الديوان الوطني للبريد الذي كان مقررا لثلاثة أيام بداية من الاثنين القادم    جامعة رفع الأثقال: هروب رباعين تونسيين الى الأراضي الأوروبية خلال منافسات المنافسات    بني خلاد: مرض يتسبّب في نفوق الأرانب    '' براكاج '' لسيارة تاكسي في الزهروني: الاطاحة بمنفذي العملية..    إيقاف شخصين بهذه الجهة بتهمة الاتجار بالقطع الأثرية..    غرفة الدواجن: السوق سجلت انفراجا في إمدادات اللحوم البيضاء والبيض في اليومين الاخيرين    الأولمبي الباجي: 10 لاعبين في طريقهم لتعزيز صفوف الفريق    تأجيل الجلسة العامة الانتخابية لجامعة كرة السلة إلى موفى أكتوبر القادم    زغوان: برمجة زراعة 1000 هكتار من الخضروات الشتوية و600 هكتار من الخضروات الآخر فصلية    منحة قدرها 350 دينار لهؤولاء: الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يكشف ويوضح..    تنبيه/ اضطراب في توزيع مياه الشرب بهذه المناطق..    رئاسيات 2024 : تسجيل30 نشاطا في إطار الحملة الإنتخابية و 6 مخالفات لمترشح وحيد    فتح باب الترشح لجائزة الألكسو للإبداع والإبتكار التقني للباحثين الشبان في الوطن العربي    تونس: حجز بضائع مهرّبة فاقت قيمتها أكثر من مليار    سقوط بالون محمل بالقمامة أطلقته كوريا الشمالية بمجمع حكومي في سيئول    قفصة: إنطلاق الحملة الدعائية للمرشح قيس سعيد عبر الإتصال المباشر مع المواطنين    يهدد علم الفلك.. تسرب راديوي غير مسبوق من أقمار "ستارلينك"    "دريم سيتي" يحل ضيفا على مهرجان الخريف بباريس بداية من اليوم    رم ع الصيدلية المركزية: "توفير الأدوية بنسبة 100% أمر صعب"..    سعر الذهب يتجه نحو مستويات قياسية..هل يستمر الإرتفاع في الأشهر القادمة ؟    السيرة الذاتية للرئيس المدير العام الجديد لمؤسسة التلفزة التونسية شكري بن نصير    علماء يُطورون جهازا لعلاج مرض الزهايمر    الحماية المدنية تسجيل 368 تدخلّ وعدد366 مصاب    عاجل/ عملية طعن في مدينة روتردام..وهذه حصيلة الضحايا..    تونس تشتري 225 ألف طن من القمح في مناقصة دولية    ثامر حسني يفتتح مطعمه الجديد...هذا عنوانه    ارتفاع عائدات صادرات المنتجات الفلاحية البيولوجية ب9.7 بالمائة    تحذير طبي: جدري القردة خارج نطاق السيطرة في إفريقيا    مصادر أمريكية: إسرائيل خططت على مدى 15 عاما لعملية تفجير أجهزة ال"بيجر"    كظم الغيظ عبادة عظيمة...ادفع بالتي هي أحسن... !    والدك هو الأفضل    هام/ المتحور الجديد لكورونا: د. دغفوس يوضّح ويكشف    "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"...الفة يوسف    مصر.. التيجانية تعلق على اتهام أشهر شيوخها بالتحرش وتتبرأ منه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجتمع المدني:من الثقافة الأوربية إلى العالمية والفكر الإسلامي
نشر في الفجر نيوز يوم 25 - 03 - 2008

قد يكون موضوعنا اليوم عصي الفهم حتى على مناضلي حقوق الإنسان، هناك كلمة دخلت على المجتمع العربي بطرق مختلفة وتعرضت لضربات من أطراف عديدة، وتعرضت أيضا لتبني من أطراف مختلفة وبقيت تحمل ألغازا كثيرة: ماهو المجتمع المدني؟ عن أي مجتمع مدني نتحدث؟ ما هي علاقته بالإنسان وحقوقه ؟ هل هو عملية فبركة لمجموعة من البشر يمكن أن يصبحوا سلطة جديدة تستبدل السلطات التقليدية وسلطة الدولة ؟
بالتأكيد هناك أسئلة كثيرة عندكم وعندي، ماأريده منكم أن تعطوني مثلما أعطيكم، أن تسمحوا لي بالولوج لنمط تفكيركم في الموضوع، أن أفهم كيف يفكر الناس بالحقوق الإنسانية وماذا يطرحون من أسئلة وكيف يعيشونها وماهو المجتمع المدني بالنسبة لهم؟ لنتعاون سوية فمبدأنا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان يقوم على الشراكة، وهو يرفض فكرة التقييم الفوقي ومبدأ الأستذة. فكل حاضر هنا عليه واجب وله حقوق، ويشرفني أينما ألقيت محاضرة بهذا العنوان أن أذكر باعتزاز مدينة إب.
باستثناء مصطلح كلمة المجتمع المدني العام في الثقافة السائدة يمكن أن نعثر على أكثر من 160 تعريف ممكن، حاولت أن أبحث عن تعريف مقبول من قبل معظم هذه التعريفات.
أستخدم مصطلح "المجتمع المدني" للإشارة إلى فئة، أو كتلة اجتماعية يُفترضُ أن يتوفر فيها مقدار ما من التجانس، من الانسجام، ويمكن القول بتعريف قائم على النفي، بأنها ليست المجتمع الواسع وليست الدولة الجغرافية. هي منزلة بين المنزلتين، باستعارة تعبير المعتزلة، تقوم على أن الدولة لا يمكن ولا يجوز أن تمثل الناس في كل زمان ومكان وقضية. وأن المجتمع الذي سبق الدولة وصنعها قادر من حيث المبدأ على البقاء خارج فضائها بأشكال فردية أو جماعية، تلقائية أو منظمة. بحيث يضفي على العلاقة بين الدولة والمجتمع سلطة مضادة هي في الآن نفسه، صمام أمان وقوة مقاومة ومصدر إبداع. من أجل ذلك قامت بعض الجماعات والشخصيات بمبادرات تلقائية عفوية أو منظمة، أرادت أن تقول منها وعبرها أنها خارج سلطات الدولة.
محطات من التاريخ
كان نشوء الدولة على حساب التكوينات الاجتماعية السياسية التي سبقتها كالقبيلة والملة والإثنية والعشيرة، لذا وقعت عملية تبادل أو مقايضة تاريخية للسلطة، إما بدخول التكوين العضوي قبيلة أو عشيرة في تكوين أجهزة الدولة وعصبيتها، أو في تنظيم علاقة وساطة بين التركيب العضوي القديم والدولة الناشئة بصيرورة رئيس القبيلة وسيطا لها عند قبيلته ووسيطا لقبيلته عند سلطاتها. لكن دور الوسيط في المجتمع الواسع لم يكن كافيا لإنتاج واسع لشخصيات اعتبارية بالإمكان أن نسميها مجتمع مدني.
منذ الكتابات الإغريقية والرومانية والعربية عن ”المدينة الفاضلة“، بل عن كل شيء جميل في حلم، أو رغبة مثالية لوضع أفضل من الوضع الذي نحياه، لم تكن الدولة الممثل الوحيد والأمثل للمجتمع في كل مكان وكل قضية، ووقفت شخصيات اعتبارية وهيئات مجتمعية مواقف أساسية في مناهضة العنف أو الصدام بين الرأسمال التجاري التربوي والدولة والمجتمع. هناك مثل في التاريخ العربي ما قبل الإسلامي مباشرة هو حلف الفضول الذي تشكل من مجموعة كانوا يملكون أفضل الألقاب بالمعنى القبلي والثروة بالمعنى التجاري، لكنهم وضعوا لقبهم وسلطتهم خارج منطق الهيمنة وقالوا بأن مهمتنا الدفاع عن كل مظلوم وعن كل محروم. هذا المثل الذي حيّاه رسول الإسلام هو واحد من أول أشكال المجتمع المدني في التاريخ البشري الواضحة المعالم لذا استحق أن يكون جزء أساسي ومادة منفردة في موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان. مع الإسلام، بدأت تجربة جديدة مختلفة مع مفهوم الأمة. من المهم أن نذكر بأن مفهوم الأمة في القرآن والحياة المعاشة سبق مفهوم الدولة، الأمر الذي ترك مساحات ضبابية واسعة في تنظيم العلاقة بين المجتمع والدين والدولة. لكن الفتوحات وبناء الإمبراطورية رجحا قوة الدولة. هذه المساحات ضاقت في عملية الفتوحات الإسلامية وبناء إمبراطورية كبيرة أثقلت كيان الدولة في الثقافة السائدة. لايمكن أن نبني إمبراطورية بدون دولة مركزية قوية والمجتمع المدني ليس عنصرا سببيا بل هو مادة تكّون أثناء بناء الإمبراطورية ومع استقرار مدنها. لم يكن المجتمع المدني عنصرا أساس في أية عملية توسع في التاريخ، وحتى الاستعمار الحديث لم ينجح في توظيف فكرة المجتمع المدني لحسابه في استعمار إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لأن هذه الفكرة في ذاتها التاريخية وحتى اليوم، مناهضة للهيمنة والاستعمار والتسلط.
علينا انتظار الحسن البصري (642-728م) ومدرسته بأكملها لتتبع أول عملية فصل فعلية بين السلطة والأمة، بين قاضي الخليفة والقاضي بين الناس، فالحسن البصري أجبر على أن يكون قاض الخليفة فرفض، كما رفض أي عطاء أو مرتب من الخلفاء. قال اسجنوني أفضل لي ولكم. وعمل كقاض بدون مرتب وباستقلال تام عن الخلفاء. وحتى الخليفة عمر بن عبد العزيز قال: عله معي يقبل فأرسل من يستشف الرأي قبل أن يطلب منه احتراما له، فكان جوابه ليس مكاني هذا واختار القضاء بين الناس بدون عطاء أو تكليف. وبقي قاضيا مستقلا في أول تجربة لاستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية في تاريخه وبنفس الوقت مشى على نهجه مجموعة من خيرة الشخصيات الاعتبارية في القرن الأول والثاني الهجري. فزرع أسس استقلال القضاء من أجل تعبيد الطريق لما يمكن تسميته الإسلام المدني غير الحكومي أو "المجتمع المدني الإسلامي" بتعبير معاصر، مصطلح يستعمل اليوم بكثرة.
أما بالنسبة للثقافة الغربية، كيف استخدم مصطلح المجتمع المدني لأن الحسن البصري وأمثاله من غير الغربيين في التجربة الآسيوية مارسوا الكلمة ولم يستعملوها.
لابد من العودة إلى ثلاثة أشخاص في أوربة لعبوا دورا أساسيا في هذه العملية. اثنان منهم أنغلوساكسون والثالث فرنسي. من شبه ركام مفهوم المواطنة والحقوق والقانون، ومع استعادة أوربة لقوة العقل في فهم ذاتها والعالم، نستحضر ثلاثة من رواد الفكر الأوربي :
توماس هوبس (1588-1679) Thomas Hobbes
جون لوك (1632-1704) John Locke
جان جاك روسو (1712-1778) J-J Rousseau
بالنسبة لتوماس هوبس، الفكرة كانت بسيطة جدا: المجتمع الطبيعي هو مجتمع العائلة، مجتمع القرية، مجتمع التموضع الجغرافي أو علاقات قربى الدم (فيما بعد أصبحت تسمى علاقات عضوية). وعلينا الانتقال من هذا المجتمع الطبيعي إلى ما أسموه في كتابات الحقبة: المجتمع المدني، والذي هو مجموعة الأفراد أو الأشخاص الذين اختاروا مع بعض بشكل طوعي وبدون إجبار من أحد أن يشكلوا هيئة جديدة، مجموع الهيئات التي قامت بهذه المبادرات هي ما أسميت عند هؤلاء بالمجتمع المدني. بالنسبة لهوبس كانت الدولة المطلقة قوية من حوله، لذا نجده يراعي مسألة الدولة المطلقة ويتجنب مسألة الخوض في معارك مباشرة معها بقوله بأن الدولة مضطرة أن تراعي أمنها وأمن الناس. إذن لنضع كلمة الأمن قبل الحرية علنا نسمح بولادة مجتمع مدني. أي أن هوبس حاول أن ينطلق من معطيات الأمر الواقع من أجل التقدم التدريجي وبالعقد الضروري الذي يجري بين البشر يمكن لهؤلاء الناس أن يشكلوا قوة في المستقبل للتخفيف من طغيان هذه الدولة المطلقة.
لوك الذي أتى بعده أتى بفترة كانت السلطة فيها مهتزة انطلق من فكرة التعاقد: أولا، أن مسألة التعاقد مسألة ضرورية وأساسية في المجتمع البشري، وبقدر قبولنا بالعلاقات التعاقدية بقدر مايمكننا العناية بالفرد والممتلكات والدفاع حتى الدولة من العدوان الخارجي. لأن الإنسان الحر قادر على الدفاع عن حرية بلده بينما الإنسان المستعبد لا يستطيع أن يصون سياسة وأمن بلده. وفي هذا السياق قال جملته المعروفة "جميع الناس أحرار متساوون ومستقلون بطبيعتهم ولا يجوز إخراج أي منهم من هذه الحالة وإخضاعه للسلطة السياسية للآخرين دون الحصول على موافقته".
أما جان جاك روسو فقد أكد على مفهومين: الحرية والمساواة. انطلق منهما لتعريفه لأي نظام تشريعي وتعريفه أيضا لفكرة وماهية الإنسانية نفسها. يقول في هذا المجال ”إن تخلي الإنسان عن حريته، هو تخلٍ عن صفته كإنسان، عن حقوقه في الإنسانية، بل عن واجباته. وليس هناك أي تعويض ممكن لمن يتنازل عن كل شئ إذ أن تنازلا كهذا منافٍ لطبيعة الإنسان“. هذا الرأي نفسه يدافع عنه الدكتور محمد هيثم الخياط وهو من القلائل من المفكرين الإسلاميين الذي يعتبر بأن الحق الأول المصان في القرآن هو الحرية في حين أن هناك رأي أغلبي يقول بأن الحق الأول هو الحياة ثم تأتي الحرية والمصونات. يدعم الخياط توافقه مع جان جاك روسو بأسس قرآنية.
بعدها جاء عمانوئيل كانت Kant (1724-1804). وقد انطلق من فكرة أساسية معاكسة تماما، تقوم على أساس تفكك مفهوم الدولة المتسلطة وترتكز على ثلاث أفكار:
اعتبار الدولة لاعب رئيس ولكن غير وحيد
إقرار قيم عالمية مشتركة (حقوق الإنسان، السلام..الإيمان التوحيد بين الشعوب والأمم )
الإقرار بوجود مصالح للدول، ولكن أيضا الاعتراف بمصالح للشعوب ومصالح تعني الجنس البشري بأكمله (فالمصلحة العامة أن نقوم بعمل مشترك ضد التلوث كذلك في مواجهة ضرب طبقة الأوزون) هذا الكلام يعود للقرن الثامن عشر لكنه بدأ بهويات ثم بدأ الدفاع عنه يأخذ حجم أكبر وقوة أكبر في المجتمعات التي حولته من مجرد أفكار لمفكرين ومغامرين إلى ماسمي فيما بعد السلطة المضادة في مقابل السلطة التنفيذية. أطلق عليها اسم المجتمع المدني.
باختصار، يمكن تكثيف اللحظات الثلاث للمجتمع المدني عند هيجل G.W.F Hegel (1770-1831) بما يلي:
نسق الحاجات أو تطور عناصر المجتمع المدني من الدوافع والحاجات الذاتية
تنظيم العدالة: أو التعبير القانوني لتنظيم العلاقة بين الأفراد والمؤسسات
الشرطة (الدولة) والنقابة(المجتمع المدني): أي القدرة على الكبح المتبادل لعسف السلطة والسلطة المضادة .
عند ماكس فيبر (1864 - 1920) الرأسمالية والديمقراطية شرطان للمجتمع المدني. أي إذا لم يكن هناك ديمقراطية فلا وجود للمجتمع المدني. وقد استدل في دراسة له على ما يقول بالمجتمعات العربية ليقول بأن ضعف الرأسمالية لا يعطي مجتمع مدني، رغم أنه يتحدث في حقبة النهضة وعمالقة مطلع القرن العشرين في العالم العربي عامة ومصر بشكل خاص.
ليس بالإمكان التوقف طويلا عند ماركس بسبب موقفه النقدي السريع وتغيراته، حيث شهد المصطلح تطورا من ماركس الشاب الأقرب لهيغل، ماركس المتوسط قبل رأس المال وكان مع نقد فكرة المجتمع المدني ثم في إسهام نقد فلسفة الحق عند هيغل، اعتبر أن المجتمع المدني هو مجتمع مدني بورجوازي بالترجمة الحرفية الألمانية حيث تأرجح المجتمع المدني بين عدة مفاهيم ومواقع في البنيتين التحتية والفوقية، ويمكن القول أن أول الماركسيين اهتماما بالمصطلح وتوظيفه الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابات السجن حيث بدأ مناقشة بأن الطبقة العاملة لوحدها عاجزة عن إحداث التغيير ولابد لها من نظم وهيئات ومؤسسات، إذن عاد ليصب في فكرة المجتمع المدني.
دخل المصطلح الكهف كأهل الأسطورة أكثر من تسعين عاما مفتقدا، كما يقول عزمي بشارة، لأي موطئ قدم في النظريات الاجتماعية والسياسية والقانونية الأساسية التي سادت في الشرق والغرب كمصطلح تاريخي يعود إلى عصر التنوير. ليعود بثوب فضفاض وذمة واسعة وآفاق متعددة تسمح بأن يكون أداة مطواعة للقامع والمقموع. فكلما ازداد استعمال هذا المفهوم في حالة الرواج، زادت هلاميته وتراجع فهمه وصار مادة استعمال وتوظيف واستخدام دون رقيب أو ضابط( كمصطلح الإرهاب). وهذا واقع يجب أن نناضل من أجل أن يكون له قوة الفعل لوقف وتحديد عسف الدولة وتنظيم العلاقات بين البشرية ليكون ثمة صمام أمان بين الدولة والمجتمع
عودته بقوة في الصعيد الأكاديمي والمنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية كانت مع مؤشرات سقوط أنموذج الدولة البيروقراطية الاشتراكية. وقد طرح على الطاولة، منذ ولادة نقابة ”تضامن“ في بولونيا، مفهوم المجتمع المدني بتعريف جديد باعتباره التعبير عن مجتمع المواطنين الأحرار أكثر منه مصطلحا مرتبطا بالضرورة بتصور ليبرالي أو اشتراكي.
يعتبر آدم ميشنك وفاكلاف هافل المصطلح تكثيفا لضرورة قيام جبهة دفاع ومقاومة مدنية قادرة على الانتقال السلمي من الأسفل للأعلى في دولة شمولية. دون مقاومات مسلحة بل عبر نضال مدني سلمي، (التشيك) كانت ثورتهم مخملية. قمع المثقفين واعتقالهم لم يغير في رغبتهم السلمية في التغيير. توجهوا للناس دون تمييز وقالوا للمجتمع أنتم جبهة المقاومة المدنية تعالوا أساتذة جامعة، عمال، فلاحين، مهن وسطى لنتعاون سوية حتى نوقف طغيان الحزب على المجتمع. بدأت المظاهرات تستقطب أكثر فأكثر مستفيدة من تجربة 1968، وشارك الجميع عدا الحزبيين فسقط النظام الشمولي. هنا حقق المجتمع المدني تعريفه واستطاع أن يعبر عن طموحات المجتمع التشيكوسلوفاكي (قبل انشقاق التشيك عن سلوفاكيا) في وقف طغيان الدولة الشمولية. طبعا كان هذا شكل سقوط أنموذج الدولة المؤممة للسلطات الأربع (وليس السلطات الثلاثة كما كان يقال لأنها مؤممة للراديو والصحف والتلفزيون أيضا)، كان بحد ذاته انتصارا لضرورة التخلص من الدولة البطركية التي لا تسأل عما تفعل ويسأل رعيتها عما لا يفعلون. هذا الأنموذج أصّل فكرة الانتقال السلمي المدني إلى الديمقراطية وكأي مشروع ينجح ستتكالب عليه كل قوة: شراء، بيع، مساومة (هناك من قايض ليش فاليسا على ثمن يحلق مقابله شاربه) باختصار، جرى خلط المجتمع الاستهلاكي مع المجتمع المدني ومشروع اقتصاد السوق مع أنسنة المجتمع والعولمة الوحشية مع عالمية حقوقية ومدنية ؟
وهكذا انتعشت عدة مدارس ليبرالية جديدة لتوظيف ما حدث في خدمة فكرة مركزية تقوم على أن المجتمع المدني هو الابن الطبيعي لاقتصاد السوق أو الحمالة السلمية للانتقال إليه.
لذلك هناك الكثير اليوم من المنظرين الموظفين في مؤسسات متعددة الجنسية، يعطون الدروس الجامعية في المجتمع المدني. باعتبار هذا المجتمع المدني لا يمكن أن يكون أو أن ينشأ إلا في اقتصاد السوق. لذلك يجب أن يكون هناك ليبرالية واسعة وقوانين تعطي تأشيرة دخول "مشرفة" في منظمة التجارة العالمية. هذه معايير مسبقة بالنسبة لهم إذا حدثت قد يكون هناك مجتمع مدني. طبعا يذكرنا هذا الكلام بشركات الأدوية التي تحاول تشغيل عدد من الأطباء لفكرة التسويق لبضاعتها. لذا، يجب التمييز بين العاملين في مثلا شركة نفط معروفة طلبت من حوالي 16 باحث العمل على نشوء المجتمع المدني مع تعريف وبحث يؤكد على اقتصاد السوق كشرط واجب الوجوب لهذا المجتمع وبين من يناضل على الأرض من أجل تجاوز العصبيات المحلية والإقليمية والاعتقادية من أجل مجتمعات أكثر عدالة وأقل عدوانية.
طبعا اعتدنا على أن نسمع الاسم وقليلا ما نقرأ السيرة الذاتية: خذوا مثلا كونداليزا رايس. المنحة الدراسية التي سمحت لها بالصعود الجامعي والسياسي من شركة نفطية. يعني هل بالإمكان أن تكون الديمقراطية المقدمة منها خارج منطق الاطمئنان على مصادر النفط في ظل الأمن القومي الأمريكي؟ طبعا هناك محاضرات جميلة من وقت لآخر عن شرق أوسط كبير وجديد، لكن الأساس يجري في اجتماعات لها كوزيرة خارجية بأربع مسئولي أمن في أربع دول عربية. هذه الآنسة أيضا تقول بأنها مدافعة عن المجتمع المدني؟ إذن من الضروري التمييز بين البذرة الصالحة والرديئة. المجتمع المدني كأي فكرة جميلة ونبيلة يتاجر بها البعض مثل كلمة الإسلام وحقوق الإنسان لا فرق.
في وجه هؤلاء، تقف مدرسة متعددة الجذور والألوان بالمعنى الفكري والسياسي، ما يسمى بالحركة المناهضة للعولمة الوحشية، وأبرز منظمات حقوق الإنسان وأكثرها مصداقية، الفكر النقدي الإنساني والحقوقي، كل هؤلاء يعتمدون على الربط الجوهري في البلدان الجنوبية بين المجتمع المدني والتنمية المستدامة، وليس العلاقة بين المجتمع المدني واقتصاد السوق. بمعنى أن المجتمع المدني ليس المروج للشركات متعددة الجنسية وإنما المطالب بعملية تنمية شاملة. (كضبط زراعة القات التي تستهلك قدرات المواطن والبيئة والماء بتقديم مشروع زراعة بديلة قادرة على إرضاء المزارع أولا قبل إرضاء مستخدم القات، لكي يبقى توازن المياه بتناسب مع الحاجات الغذائية والبيئية للمواطن اليمني) إذن لابد لنا من نظرة شاملة يكون الإنسان مركزها. وتشترك هذه الاتجاهات في اعتبارها غياب هذا البعد الإنساني أو ضربه، من أسباب تعثر التجربة الروسية بعد السوفييتية، وأهم المآسي الناجمة عن النظام العولمي السائد.
لذلك اعتبر كوهن وآراتو ودوبنك، أنه من الضروري أن يكون المجتمع المدني، بل مكانه ودوره الطبيعي في صالح مايسمى دولة الرفاه، ضد الاقتصاد الليبرالي. أي الدولة التي تعطي لمواطنيها حقوق أساسية غير قابلة للمس كالضمان الاجتماعي، حق التقاعد، ومجموعة حقوق أساسية لا تضمنها الدولة ذات التوجه الليبرالي العشوائي.
بالنسبة للكتابات في فكر حقوق الإنسان، هناك بوصلة تحدد موقفنا مما يسمى حركات وتوجهات فكرية تتناول مسألة المجتمع المدني. وبتكثيف شديد، لا يمكن للمجتمع المدني أن يكون محايدا في الدفاع عن الحقوق الستة التي ندافع عنها: السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية. بهذا المعنى لنا دور ضد هيمنة جماعات الضغط المالية والصناعية العسكرية والنفطية على مستقبل كوكبنا، وفي مواجهة مع اللبرلة الوحشية التي تعطي للقلة لتحرم السواد الأوسع. كلوبيات الضغط الواسعة من أجل منع العديد من الاسلحة، لأن شركات الأسلحة تحاول شراء من تستطيع من المناضلين حتى تخفف من الحملات ضدها. كلنا يعرف بأن الدكتاتورية العسكرية في بورما صامدة لأن هناك شركة نفطية متعددة الجنسيات تحمي العسكر من أجل امتيازاتها النفطية. نحن هنا ضد ديكتاتوريتين، ديكتاتورية المال النفطية، وديكتاتورية العسكر.
وجهة نظر هيلموت انهير Helmut Anheier من المفكرين الذين عملوا على مفهوم ضرورة الانفصال المدني عن مثلث: العائلة، الدولة واقتصاد السوق. معتبرا بأن هناك نقطة في الوسط تستوجب استقلالية عن الثلاثة، هذه النقطة عندما يتجمع فيها الناس بشكل طوعي دفاعا عن المصلحة العامة نتحدث عن مجتمع مدني.
في الصراع المفهومي والواقعي على المجتمع المدني ومحاولات تطويعه للمنظومة السائدة بكل الوسائل من الترهيب بالمحاصرة إلى الترغيب بالتمويل والدعم عبر ما صار يعرف بمنظمة الرجل الواحد (أي مركز يقيمه شخص واحد ويحيط نفسه بفريق من المتفرغات والمتفرغين الممولين من سفارة أو مؤسسة شبه حكومية ينصب الإعلام الغربي وكيلا عاما للمجتمع المدني في بلد ما). لذلك، وفي وجه كل عمليات التوظيف والاحتواء، تبرز أهمية اتساع هامش تحرك المواطنين الأحرار من كل البلدان في جالية عالمية لا تعترف بالحدود، تعتبر حقوق الإنسان وحماية البيئة والسلام العادل وحقوق الإنسانية والعدالة والتنمية المستدامة قيما مشتركة تتطلب نضالات مشتركة وجماعات ضغط عابرة للحدود يسميها البعض المجتمع المدني العالمي GCS والبعض الآخر المجتمع المدني العابر TCS.
إذن هذه الجماعات هي التي تستطيع اليوم أن تستصدر قرار يدين الحكومة المصرية على محاكمة 40 من الإخوان المسلمين أمام المحاكم العسكرية أو اعتقال نشطاء المجتمع المدني في سورية أو فرض الحصار على شعب غزة أو تسيير مظاهرات مليونية ضد الحرب. هذه الشبكة غير المرئية والدينامية تخيف الاتحاد الأوربي، تحرك مجلس حقوق الإنسان، تجعل الحكومة المصرية تهتز ويضطر وزير الخارجية أن يوجه تهما بالعمالة وخدمة الأجندة الغربية لمن استصدر قرار الإدانة ؟ ناسيا أن للمظلومين في مصر واليمن وسورية وليبيا.. حلفاء في كل مكان.
إذن وجهة نظر المدافعين عن المجتمع المدني كقوة وسلطة مضادة مركزية في عصرنا الراهن ترى أن المناطق الفاصلة بين الدولة واقتصاد السوق، بين السلطة السياسية والسلطة المالية، بين سيادة الدولة والدفاع عن الكرامة الإنسانية متجهة كما ترى في صيرورة حرية البضائع لأن تكون أسمى من حرية البشر وحركتها أكثر سهولة من حركة الإنسان. فما نراه اليوم، خاصة بعد الحرب على الإرهاب 2001 أن أية بضاعة تستطيع أن تعبر الحدود أحيانا بصفقة مع وزير وأحيانا لا يحتاج الأمر لوزير، موظف بالجمارك قد يمررها. في حين توجه اللجنة العربية لحقوق الإنسان دعوة لأستاذ جامعي يمني إلى باريس مع جميع الضمانات التي تطلبها السفارة من أجل الحصول على تأشيرة، وقد لا يحصل على التأشيرة. أما العامل المهاجر الذي يسقط في البحر ويدفن بمقابر جماعية إن لم تختطفه المياه المالحة، فلا تعويض له أو حديث عن وضعه في منظومة الحقوق؟
نعم، في عالمنا الراهن حرية البضاعة مكفولة أما حرية التنقل للبشر فتعطي زوارق الموت. نحن اليوم في وضع غلبة الدولة الأمنية على دولة القانون باسم الحرب على الإرهاب وباسم المصلحة العامة؟ نعم، باسم أشياء كثيرة أصبح الأمن وليس القانون أو العقد، هو التعبير الأمثل لكلمة الدولة. تحديات كبيرة مشتركة وعالمية تضع كلمة المجتمع المدني فوق حدود الثقافات والتجارب، بل وتدمجها في صلب الحركة الفكرية الإسلامية. من هنا ظهور مصطلح المجتمع المدني الإسلامي وتبني أكثر من رمز فكري إسلامي له.
المسلمون والمجتمع المدني
يُعتبر مفهوم (المجتمع المدني) من الإشكاليات الفكرية والسياسية في الخطاب الإسلامي على اختلاف تعبيراته. ومن الصعب أن نعثر على مقاربة واضحة، ناهيكم عن تصور إسلامي متكامل ومتفق عليه حول المجتمع المدني.
سنحصر مداخلتنا اليوم في التيار الذي تبنى مقولة المجتمعي المدني في الإسلام أو المجتمع المدني الإسلامي باعتبار هذا التيار يتقاطع مع حركة حقوق الإنسان أولا ويبشر بنويات صلبة للإصلاح والتجديد ثانيا ويجمع بين الأصالة والإبتكار في النظرية والممارسة في كل مجالات الشأن العام ثالثا:
في هذا التوجه تبرز أسماء عديدة مثل الدكتور محمد خاتمي والدكتور وجيه كوثراني والدكتور أبو بكر باقادر والعديد من المفكرين الإسلاميين في أوربة. وسنتوقف مطولا عند أطروحات داعية الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني القيادي في اللجنة العربية لحقوق الإنسان الدكتور عبد الله الحامد (أبو بلال). والذي حكم عليه لخروجه تضامنا مع نساء معتقلي رموز المجتمع المدني ب 6 أشهر بالسجن (دخل سجن بريدة بعد يومين من إلقاء المحاضرة) .
يتفق هيثم مناع(1992) ووجيه كوثراني (1999) وعبد الله الحامد (2002) وأبو بكر باقادر (2004) على أن مفهوم المجتمع المدني :
أولا عالمي
وثانيا له جذوره في التاريخ والثقافة العربية الإسلامية.
يعتبر كوثراني قواعد التعريف الهيغلي متوافرة في الحضارة الإسلامية عبر ثلاثية " الدولة/ الشريعة/ العصبية/ الملة أولا، التنظيم الحرفي/ الطرق الصوفية / الأسواق والحارات أو فعاليات المدينة الإسلامية ثانياً، الوقف والخدمات الاجتماعية والعملية ثالثاً. هذه توضح معالم المجتمع المدني في التاريخ العربي الإسلامي وبالتالي لايمكن اعتبار هذا المصطلح غريبا عنا في مجتمعنا المعاصر إذا كانت قد توفرت قبل عشرة قرون وعاشها الناس في بغداد وفي الأندلس فلم لانعشها اليوم ؟بنفس الطريقة أو بطريقة أرقى ؟ لعلنا نتناول إطروحات المثقف محمد خاتمي في فرصة أخرى، لكننا سنركز في هذه المحاضرة على وجهة نظر عبد الله الحامد.
يمكن تكثيف وجهة نظر عبد الله الحامد كالآتي:
أولا: "إن عدم شيوع المفهوم ولا تحديد عناصره وعدم ظهور تكتلاته ، في أنماط راسخة في الأعراف الاجتماعية، لا يعني أن الإسلام لم يتبن مبادئ المفهوم، فضلاً عن أن يتصور أن المفهوم لا ينسجم مع العقيدة الإسلامية. فقيم المجتمع المدني كحقوق الإنسان والديمقراطية، والحرية، والعدالة والمساواة وأطرها السياسية: كالدستور والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء، مجموعة مفاهيم أنتجها الغرب، ولكنها مفاهيم إنسانية، موجودة الجذور في أي ثقافة ذات حضارة، ويمكن اليوم لأي ثقافة أن تستدخل المصطلحات الغربية ضمن منظومتها، وأن تزيد فيها وتعدل وتصهر وتفرز، حتى تتناسب مع خصوصيتها "
"إن مركزية الإدارة وسلطتها المطلقة أو بتعبير آخر احتكار القرار؛ أو بتعبير أدق(الاستبداد) هو سر الانحطاط في أي أمة، وليس صحيحا ما تردده ثقافتنا الموروثة، من فضل المستبد العادل، فالمستبد لا يمكن أن يعدل، حتى ولو كان مخلصا تقيا مصلحا، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة "
ثنائية دمار البلاد والعباد في كل أمة؛ هي حكم (الجبر) الذي لابد أن يفضي إلى (الجور)، وثنائية الصلاح في كل زمان ومكان: حكم (الشورى)، الذي لابد أن يفضي إلى (العدل)
وسيلة الوصول إلى النظام الدستوري رسوخ ثلاثية المجتمع المدني، في الأعراف والعلاقات الاجتماعية، بعناصرها الثلاثة
العنصر الأول: رسوخ القيم (الثقافة المدنية) وأهمها:
إيمان الناس بأنهم هم أدرى بمصالحهم، وأن دور الحكومة محصور بتنفيذ رأيهم فحسب، وتحديد دور الحكومة بأنها سلطة تنفيذية لما يقرره المجتمع فحسب، لما تقرره الأمة عبر ممثليها، في تحقيق مقاصد الشريعة ووسائل تنفيذها المشروعة، أي رفض السلطة المطلقة.
الالتزام بحل أي خلاف سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو مذهبي عبر الحوار والصراع السلمي.
المواطنة، هي أساس الحقوق، وفي إطارها تنشأ قيم التعددية والحوارية و التسامح والأغلبية والشورى والتعايش،
العنصر الثاني: قيام تجمعات المجتمع المدني الأهلية، كالنقابات والجمعيات، بفروعها (الخمسة): سياسية واقتصادية، واجتماعية ومهنية وثقافية.
العنصر الثالث: إنما الحكم الشورى العادل، له مضمون، وله هيكل و هيكله هو خيمة الحكم الدستوري، بأعمدتها الخمسة: تقرير سلطة الأمة في تحقيق مقاصد الشريعة، قيام سلطة الشعب النيابية التشريعية المنتخبة، تعزيز استقلال القضاء، تحديد وظيفة سلطة الحكومة بأنها سلطة مقيدة، تقرير مشروعية إنشاء جمعيات المجتمع المدني الأهلية
بالعودة بالذاكرة إلى هيغل ثم أبي بلال نجد أن الحامد أقرب إلى المجتمع العربي الإسلامي ومشكلاته
فمفهومي الحكم الدستوري والمجتمع المدني عند أبي بلال ليسا غائبين عن ثقافتنا وإن كانا غائمين، ولكن مصطلحاتهما ومفرداتهما وهياكلهما وإجراءاتهما غريبة على البيئة العربية، تحتاج إلى تأليف وتقريب. من ما يسهل الأمر أنها مفاهيم عالمية إنسانية مشتركة في غاياتها النهائية لسعادة وازدهار وتقدم الحياة البشرية بشكل متوازنْ حين سلكتها الأمم المتقدمة، التي استطاعت أن تحكم بالقسط والشورى، فسادت وعلت
إذن ينبغي، وفق أطروحة الحامد، تأسيس خطاب المجتمع المدني والدستور على الإسلام، عقيدة الأمة وهويتها الثابتة، تأسيسا فقهيا أصوليا، لأن الإسلام هو المرجعية التي يجب الالتزام بها، لتصبح مفاهيم المجتمع المدني مدعومة بسناد ديني لكي لا نحرف الشريعة، ولأن ذلك أيضا، يقربها إلى الناس، ويحميها من معارضيها، من من لا يدركون كيف كان الإسلام في عهد الرعيل الأول؛ مشروعا للإصلاح السياسي والاجتماعي معا، ومشروعاً للتقدم الدنيوي والأخروي معا، ومشروعاً للرقي المدني والروحي معا، لذا بالنسبة له:
الدستور ليس علمنة، وليس من المصالح المرسلة، بل هو إحياء الوسيلة المناسبة اليوم لإحياء السنة، فأعظم البدع في الإسلام هي الحكم الجبري الجائر، ولكي يتبين للجميع أن الإسلام أقر سلطة الأمة في تحقيق مقاصد الشريعة، ونادى بحقوق المواطنين وحرياتهم مدنية وثقافية واجتماعية وسياسية، قبل خمسة عشر قرنا من تنادى الأمم الدستورية إليها، لكي لا ننحرف عن شريعة الحق والعدل
دعاة حقوق الإنسان والمجتمع المدني والإصلاح الدستوري، مجاهدون محتسبون (احتسابا سياسيا) وهم مطالبون بالحذر من الجري وراء مكاسب حزبية أو فئوية أو شخصية وبالحذر من الحسابات الصغيرة؛ فالتخندق خلف هذه الحسابات الفئوية والحزبية والشخصية أضاع في البلدان العربية والإسلامية كثيرا من الطاقات.
من أجل أن ينجح مشروع الإصلاح في أي بلد عربي ينبغي أن يكون وطنيا؛ يستوعب جميع الأطياف الاجتماعية والثقافية، وجميع المناطق والطبقات، سواء أكان دعاته من دعاة الإسلام، أو من دعاة التحديث أو القومية أو الوطنية. هذه القاعدة التي جسدها الخليفة الراشدي الرابع، في تعامله مع الخوارج أي مفهوم الدولة الوطنية، الذي ينقل به الناس من مفهوم الدولة المذهبية الحزبية الضيق، إلى مفهوم الدولة الإسلامية الرحب المتسامح.
الناس محتاجون إلى أن يقدم كل فريق ثقافي أو تيار اجتماعي؛ مسألتي المجتمع المدني والدستورية على ما عداهما، حتى يتم رسوخهما في المجتمع، ومادام الإسلام في أصل خطابه يحتوي ذلك المفهوم تقريراً أو إقراراً، تفصيلاً أو إجمالاً، فلا مشكلة في بناء الآليات والإجراءات، ولا في بناء النظم والنظريات
الإصلاح في كل بلد عربي، لم ولن ينجح، ما لم يكن فكر دعاة (الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني) محط ثقة شعبية، لاسيما عندما يعالج ممارسات تخالف في ظاهرها العدالة الشرعية، ولكنها مدعومة بتراث يتقنع الإسلام، في قضايا تتعلق بالقضاء والتعليم وحقوق المرأة والمواطنة والتعددية والأغلبية والصراع الرمزي والتسامح ونحوها من قيم المجتمع المدني. أو عندما يستخدم مصطلحات غير شائعة حديثة كالدستور، والفصل بين السلطات.
يحتاج (الإصلاح الدستوري والمجتمع المدني) إلى المصداقية الشعبية، هذه المصداقية تحتاج في مجتمعاتنا إلى مصداقية دينية، وأية مصداقية دينية تحتاج إلى التأصيل الفقهي عبر العلوم الثلاثة: أصول الفقه ومقاصد الشريعة والعقيدة.
إن الأصل في (الإصلاح الدستوري) أن يبدأ من الأدنى إلى الأعلى، من القاعدة الشعبية، عبر انتشار قيم المجتمع المدني أولاً، وعبر قيام تجمعاته الأهلية ثانياً، لأن الإصلاح السياسي ومنه الدستور لا يتم إلا بقرار سياسي والقرار لا يتخذ إلا بمطالبة شعبية فاعلة. والإصلاح الذي يبدأ من الأعلى إلى الأسفل من قمة الهرم، قد يعانى من مراحل تقدم غير منتظمة، كما قد يؤدى إلى الكثير من التأخر، بسبب تعرضه لعقبات سياسية واجتماعية وثقافية، وقد يصبح الإصلاح غير راسخ، ما لم يرافقه البدء من الأدنى، وتفعيل قاعدة الهرم. وحشد التأييد الشعبي، كما حصل في أوربا الشرقية.
هذا بإيجاز شديد ملخص وجهة نظر زميلنا في المملكة العربية السعودية، حاولت عرضها بأمانة كما عرضت وجهات نظر الآخرين، ربما سيكون لي عودة نقدية لها في المستقبل. ولكن في ظروف الخناق ومنع السفر التي يعيشها رواد المجتمع المدني في المملكة، وجدت أن التعريف بوجهة نظرهم واجب علينا لكسر الحصار المطبق عليهم. ولعل النقاش يسمح ليس فقط بتبيان وجهة نظري في أكثر من محور، بل أيضا إعطاء التجارب اليمنية حقها كمثال على ما تطرحون من تساؤلات وتجارب وأمثلة، أشكركم لحضوركم الكبير، وأتمنى أن لا أكون قد أطلت عليكم.
--------------------------
ألقى هيثم مناع هذه المحاضرة بدعوة من منظمة هود في مدينة إب (اليمن) بالتعاون مع ملتقى المرأة للدراسات والتدريب واللجنة العربية لحقوق الإنسان في 6/3/2008 www.haythammanna.net


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.