دعونا نؤكد في بداية مقالنا هذا على ايماننا المطلق بحرية الاعتقاد وعلى تسامحنا المؤكد مع أصحاب الملل والنحل والطرائق والمذاهب , فتونس وشعبها كانا على الدوام مفتوحين على التعايش مع أصحاب الديانات والحضارات منذ قدم التاريخ ... بل لعلنا نذكر بأن تونس وبلاد المغرب العربي قد استقبلا قبل حوالي خمسة قرون عشرات الالاف من اليهود الوافدين من بلاد الأندلس , حين كانت محاكم التفتيش تعمل الة القتل والتعذيب في حوالي 5 أو 6 ملايين من المسلمين الموريسك مع الاف اخرين فروا بجلودهم من الطائفة اليهودية ... هؤلاء القادمون من الضفة الاسبانية والبرتغالية كانوا عنصر ثراء وتمدن في حياة شعبنا , وقد كانت مساهمتهم وطنية ملتصقة بهموم تونس برغم الفواصل الاجتماعية والتمايزات الدينية , ومن ثمة تأسست معاملتهم على أرضية المواطنة التي غابت عن أرضنا وأجوائنا في ظل مااعترى السلطة ومنذ عقود من طبائع الاستبداد ... ورغم مشكلات الدولة مع قضايا الحرية والدمقرطة والقانون والمأسسة وحقوق الانسان منذ الأيام الأولى لحقبة "الاستقلال" , فان السلطة لم تتخاذل الوسيلة في حماية الأقليات وضمان حقوقها الدينية والاجتماعية والاقتصادية المشروعة ... وبالقدر الذي عرف فيه التونسيون تسامحهم مع مواطنيهم النصارى أو اليهود وضمنوا لهم انتصاب الكنائس والمعابد واقامة الشعائر والطقوس , بقدر رفضهم التاريخي لكل أشكال الاساءة للدين والمعتقد من خلال توظيفه في أغراض الاحتلال أو بسط النفوذ أو مصادرة الأرض ورسم قواعد جائرة للاستيطان .. من هذا المنطلق كان دفاع تونس الشعبية والرسمية عن الحق الفلسطيني شعبا وأرضا وتاريخا ومقدسات , ثابتا وطنيا امتزجت من أجله دماء التونسيين والفلسطينيين في حمام الشط حين اوت تونس أيام رئيسها الراحل بورقيبة , الالاف من أعضاء ومناضلي منظمة التحرير الفلسطينية ... هي حقبة رسمية ولت وانتهت على مايبدو , فحدث بعدها أن تم تصفية قادة بارزين في منظمة التحرير بتعاون جهات تونسية لم يكشف عنها اللثام تدقيقا وبيانا الى يوم الناس هذا ... لم ينته الأمر باغتيال أبي جهاد وأبي اياد وأبي الهول وأبي محمد , نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات وبتواطئ جهات تونسية مشبوهة , بل وصل الأمر سنة 2005 , الى توجيه دعوة رسمية لشارون كي يزور الجمهورية التونسية بمناسبة القمة العالمية لمجتمع المعلومات ... رفعت تونس يومذاك فوق احدى طائراتها المدنية العلم الاسرائيلي بجوار العلم الوطني , وحل وزير خارجية الدولة العبرية ضيفا مبجلا بالبلاد ... سيلفان شالوم استقبل رسميا استقبال الأبطال , بل قال السيد أحمد بن نور كاتب الدولة للأمن الوطني سابقا , بأنه تمت دعوة الأخير الى عشاء رسمي بأهم مقر سيادي ... في ظل تلكم الأجواء المحمومة يومذاك بالتمديد للسلطة خارج السياق الدستوري وخارج الأطر الديمقراطية التي يستمد الحاكم فيها شرعيته من الناخبين , عمدت السلطات الى مقايضة الداخل بالخارج من خلال التمادي في قمع النخبة والمجتمع بثمن الاعتراف بالدولة العبرية ورفع العلم الاسرائيلي... كان رفض التونسيات والتونسيين لمحاولات التطبيع مؤسسا على عدم الاعتراف بدولة الاحتلال في ظل تمادي أخطبوط الاستيطان والتهجير وهدم البيوت على رؤوس الفلسطينيين , مع شن حروب اثمة على لبنان وغزة ...من أجل القضاء على حلم اقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة عاصمتها القدس... سقط التطبيع السياسي الرسمي التونسي العلني تحت وقع احتجاجات النخبة والشارع , غير أن مساره السري تواصل في مساع حثيثة للقبول الخارجي بالتمديد أو التوريث , دون محاسبة تونس خارجيا على الرصيد الحقوقي والسياسي المتعطل ... يكفي أن أشير فيي هذا السياق الى أنه طلب من بعض المعارضين التونسيين الانخراط في أشغال مؤتمر تطبيعي , في مقابل الاذن لهم رسميا بدخول البلاد وعدم ملاحقتهم بموجب أحكام سياسية صدرت في شأنهم منذ حوالي عقدين تقريبا... ودون أن أدخل في تفاصيل أخرى أكثر اثارة أتركها لوقت مناسب , فان زيارة الفنانين محسن الشريف وسليم البكوش وعبدالوهاب الحنّاشي ونور الدين الكحلاوي لمدينة ايلات من أجل احياء حفل زواج اسرائيلي , لم تكن لتتم لولا موافقة رسمية تونسية , اذ يستحيل على هؤلاء التوجه الى الدولة العبرية ومن بوابة مطار تونسقرطاج الدولي دون المرور على بوابات التفقد الأمني وماتقتضيه من تمحيصات ليست بالقليلة ... كاد المريب أن يقول خذوني ! , هكذا فعل المغني محسن الشريف بسذاجة لاتمر على السياسيين أو ذوي الألباب ! , فالرجل كتب على بوابته الفايسبوكية بأنه لم يكن يعرف بنيامين نتنياهو ..!, الذي دعى الاسرائيليين الى النداء له بالحياة وفي مرات عدة وبصوت جهوري عالي عبر مكبرات الصوت , حين غنى قبل أيام أو أسابيع قليلة في حفله المذكور أغاني تونسية ...! محسن الشريف , ومن ايلات وبين حضور من أصل تونسي يحمل الجنسية العبرية , يدعو بالحياة الى الرئيس بن علي , ثم يملي عليه أحدهم كما يظهر ذلك في شريط الفيديو بالنداء بحياة بنيامين نتنياهو ..., فيفعل في سذاجة , ويكررها قائلا , قولوا يحى بي بي زاده ! , يحى بنيامين نتنياهو ولمرات عدة دون خجل أو حياء ! تطبيع ثقافي أراده أصحابه سرا , وبدوافع سياسية لمن أراد البحث عن خيوط اللعبة .., غير أنه سرعان ماانكشف على الصفحات العنكبوتية والفضائيات , وقد كان كبش فدائه مجموعة من الفنانين التونسيين أعماهم الجشع والبحث عن المال بأي ثمن كان ! هي خيانة لأبناء الشعب الفلسطيني الشقيق الذي يقتل أبناؤه تحت أهوال القصف اليومي والحصار , ويضحك على ذقون بعض قادته بوعود جوفاء تتكرر منذ سنة 1967 ... محسن الشريف ومن رافقه من فناني البؤس , ارتكبوا جريمة ثقافية تستوجب المحاسبة , وأحسب أن السلطة ستبقى متهمة مالم يتم الكشف عن خيوط اللعبة ومحاسبة أصحابها في كنف الشفافية ... واذا كانت السلطة بريئة براءة الذئب من دم يوسف , فليفتح ملف هؤلاء المطبعين فتحا رسميا وليكشف عن المغزى من الاعتراف السياسي والديبلوماسي بمن يحرم الشعب الفلسطيني من دولته الحرة المستقلة ومن عودة مهجريه الى ترابهم الوطني ... واذا تم السكوت على ماوقع , واذا لم يحاسب الفنانون على تنقلهم من أجل تمريغ أنفنا وكرامتنا الوطنيين , فان ثمن الصفقة سيتأكد مرة أخرى ومن جديد ! , والثمن بلاشك تمديد أو توريث من البوابة العبرية الخارجية بقطع النظر عن ارادة الناخبين ...